وراء الطابع الحكواتي في أفلامه وخلف هذا التلاعب المدهش بالسرد مثل حكاء واسع الخيال يخشي أن تغفل عنه ولو للحظات يبرع المخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمادوفا في تحليل العواطف الإنسانية المركبة هكذا فعل في أفلامه المعروفة السابقة وهكذا فعلها أيضا في فيلمه المهم الذي اشترك به في المهرجان الأخير الأحضان المكسورة أو Los abrozos Rotos شبكة واسعة من العلاقات والانقلابات العاطفية والنفسية وحدودته عامرة بالمفاجآت والمواقف غير المتوقعة ولكن مغزي ما شاهدناه متنوع ومتعدد بحسب الزاوية التي تراه منها يمكن أن تعتبر الفيلم حكاية حب وغرام وانتقام تستعصي علي النسيان ويمكن أن تراها دراسة نفسية لأشخاص يفشلون في الهروب من ذاكرتهم حتي ولو تغيرت أسماؤهم ويمكن أن تعتبر الحكاية بأكملها عن العلاج بالسينما وبصناعة الأفلام عن ذلك الخيال الذي يحقق ما لم يحققه الواقع. كل العناصر الممتعة التي تميزت بها سينما ألمادوفار ستجدها في الأحضان المكسورة هو أولاً يقدم سينما الحواديت ويستخدم عناصر تقليدية شاهدناها مئات المرات ولكن بشكل غير تقليدي بالمرة لا ينقص سوي أن تسمع صوتا يقول كان يا ما كان ولكن ما أن تتورط في الاستماع والمشاهدة حتي تكتشف أن ما رأيته من قبل كأنك لم تره أبداً وهو ثانياً يمزج ببراعة بين الأنواع في الأحضان المكسورة يبدو الخط الرومانسي قويا وبارزاً لكن يصعب أن تصنف الفيلم كله علي أنه رومانسي لأن الخط النفسي أيضا واضح ويلعب دوراً كبيراً في تحريك الأحداث كما أن الحبكة بأكملها تشويقية تتضمن حادثة قتل باستخدام السيارة هناك مشاهد بأكملها كتبت بسخرية لاذعة وأخري كتبت بحس تراجيدي مؤثر وثالثة تشهد مفاجآت قد تجدها في فيلم ميلودرامي عتيق كأن يعرف شاب اسم ابيه الحقيقي بعد سنوات طويلة من الغموض خلطة غريبة مدهشة تكشف عن هضم بيدرو ألمادوفار للأنواع وإفرازه لعالم جديد فريد بألوان الحياة نفسها في مستوي آخر مهم، هناك حيل وألاعيب وانقلابات في السرد ولكنها ليست عمليات مجانية إنها ببساطة وسيلة للغوص في عالم العواطف الإنسانية الداخلية تشابك العلاقات وإخفاء الألغاز ثم كشفها يرتبط دائما بمحاولة لفهم الإنسان في كل حالاته الهروب والإقدام، الحيرة بين العاطفة والجسد التذبذب بين الحب والكراهية كلمات الحوار تدعمها نظرات العيون ولمسات الأيدي هناك سطور واضحة وهناك معان أعمق بين السطور وفي المستوي الرابع المهم هناك عناية مذهلة برسم النماذج النسائية هذا ما فعله بيدرو سابقا في أفلام مثل يا إلهي ماذا فعلت لاستحق كل هذا؟ وفي نساء علي شفا الانهيار العصبي وفي قيدني من أعلي قيدني من أسفل وفي كعوب عالية وفي تكلم معها وفي ما أعرفه عن أمي.. سينما ألمادوفار هي سينما المرأة بالمعني الواسع للمصطلح حيث هي محور الدراما وموطن الأسرار ومحركة الأحداث ونساؤه تمتعن بقوة هائلة ولكنهن مريضات بالحب عندما يعشقن يندفعن إلي آخر الشوط ويدفعن الثمن دون أدني إحساس بالندم وفي الأحضان المكسورة امرأتان رائعتان تجسدهما ممثلتان أكثر روعة هما بينلوبي كروز الشابة الجميلة وانخلينا مولينا المخضرمة التي تمتلك سر الحياة بأكملها. يمكن أن ألخص لك القصة في سطور قليلة علي النحو التالي ماتيو سيناريست ومخرج سينمائي يقوم بتصوير فيلم جديد عنوانه فتيات وحقائب تتقدم إليه للاختبار شابة رائعة الحسن هي لينا أو ماجدلينا المتزوجة من المليونير ورجل الأعمال ارنستو الذي يوافق علي أن يكون المنتج حبا لها ولكن لينا مثل نساء ألمادوفار تندفع في علاقة مع ماتيو بعد أن أحبته ويتابع المليونير العلاقة بغضب يتحول إلي كراهية وانتقام ويكلف ابنه الشاذ ارنستو الصغير بمطاردة العشيقين وتصويرهما في كل مكان في حين تتابع جوديت الصديقة السابقة لماتيو ومديرة أعماله العلاقة بغيرة شديدة خاصة أنها أنجبت من ماتيو دون علمه ابنها الوحيد ديجو تتجد الأحداث إلي صدام متوقع بحادث سيارة مدبر تصدم العشيقين فتموت لينا ويفقد ماتيو بصره، يقرر أن ينسي كل شيء ويغير اسمه إلي هاري كين وبعد 14 عاما علي الحادث يموت المليونير ارنستو ويتم كشف كل الأسرار من خلال ارنستو الصغير ودييجو الشاب وجوديت التي مازالت تعمل كمديرة أعمال لماتيو، ولا يبقي أمام الأخير بعد أن استعاد ماضيه واسمه سوي أن يقدم فيلمه مع لينا كما أراد هو لا كما أراد الآخرون. هذه الخطوط العامة للقصة التي تبدو عادية، ولكن انظر كيف سردها بيدرو كاتب السيناريو علي الشاشة، اللقطة الأولي غامضة تظهر فيها لينا وهي في اختبار أمام الكاميرا، ثم يقدم ماتيو نفسه باسمه الجديد وبهيئته في عام 2008 كشخص كفيف لم يعد يخرج الأفلام ولكنه يكتفي بكتابتها ويحاول أن يستمتع بعلاقات عابرة، ثم تظهر جوديت وابنها دييجو الشاب، ومع معرفة نبأ وفاة ارنستو نعود في فلاشات لبداية علاقته بسكرتيرته لينا، ومع أزمة صحية لدييجو وظهور ارنستو الصغير كمخرج يطلب مساعدة ماتيو، يتم سرد علاقة ماتيو مع لينا وتطورها إلي حادث السيارة، وفي الجزء الآخر تحتفل جوديت مع دييجو بعيد ميلاد ماتيو وتفجر مفاجأتين: الأولي موافقتها بدافع الغيرة علي التواطؤ مع أرنستو لافساد الفيلم الذي صوره ماتيو، والثانية أنها انجبت دييجو من ماتيو بعد علاقة قديمة، ويبقي لماتيو أن يحاول انجاز فيلمه ليستعيد فنه وحبه معًا. هذا ما قصدته بالحديث عن الجانب الحكواتي في سينما هذا المخرج الكبير، هنا حكاء محترف يعيد تشكيل الزمان والمكان ويحرك شخوصه ويصنع مواقفه بجاذبية شديدة تأسرك من اللقطة الأولي وحتي المشهد الأخير، ثم تسعفه خبرته وعينه العاشقة لأنواع الأفلام المختلفة فيختار لكل جزء ما يناسبه من الأنواع، وفي هذه العملية المعقدة لا ينسي أمرين: الصورة السينمائية بكل مكوناتها، وتحليل النفوس والمشاعر ولذلك يستحق رسم الشخصيات في أفلامه دراسة خاصة، ومن عجب أن أفلامه هي أفلام أحداث درامية عاصفة بنفس القدر الذي يمكن أن تعتبرها أفلام شخصيات، في الأحضان المكسورة مشاهد لا تنسي مثل دفع ارنستو لعشيقته لينا لتسقط علي السلم، ثم حمله لها لتنقل إلي المستشفي، ومشهد دخول لينا إلي حجرة يشاهد فيها أرنستو فيلما صور لعشيقته بدون صورة، وتقوم هي بالصوت من خلفه بتكرار ما لا يمكن سماعه من الفيلم، وفي مشهد آخر رائع يتحسس ماتيو الكفيف بيديه فيلما مصورًا لآخر قبلة مع لينا قبل مصرعه، في هذه النماذج تفسير لمعني ما ذكرته من تفكير المادوفار في هذا المزيج المعقد بين السرد المشوق والصورة المؤثرة ورسم الشخصيات بكل أبعادها وخاصة عواطفها المتقلبة ونفوسها المعقدة. وبسبب هذا الثراء والعمق رغم المظهر الحواديتي البسيط يمكن أن تعتبر أن الأحضان المكسورة في إحدي قراءاته دراسة نفسية عن عدة شخصيات تمارس الهروب والتنكر حتي تنكشف الأسرار، ماتيو غير اسمه إلي هاري كين ليهرب من ذكرياته المؤلمة، ولينا كانت تحترف الدعارة تحت اسم سيفرين، وأرنستو الابن الشاذ للمليونير المتوفي عاد تحت اسم راي إكس لكي يتعرف علي ماتيو بعد 14 عامًا من الغياب، وحتي جوديت - وهي مفتاح الفيلم كله - حاولت الهروب والتنكر لمشاعرها تجاه ماتيو فلم تفلح، ولم يعد هناك مفر من الاعتراف، لوحة درامية مذهلة أقوي بكثير من الفيلم الذي صورته لينا من اخراج ماتيو، ولكن هذا الفيلم نفسه سيكون وسيلة للحب، ووسيلته للعلاج والشفاء من آلام الماضي، وسنراه في المشهد الأخير وهو يؤكد أن الأفلام لابد أن يكون لها نهاية حتي لو تم ذلك بطريقة عمياء. الممثلون أهم ما يمتلكه المادوفار في أفلامه، ومعه يقدم المشخصاتية الموهوبون أعظم أدوارهم ويفوزون بأكبر الجوائز، والاحضان المكسورة ليس استثناء من هذه القاعدة خاصة بينلوبي بسحرها الأخاذ، وأنخلينا مولينا بنظراتها المعبرة وبصمتها الذي يكاد يصرخ بحبها المكتوم، الحقيقة أن رسم ملامح الشخصيات بوضوح علي الورق يجعل الممثل يقطع منتصف الطريق لكي يبدع ويؤثر بحدوتة ليست ككل الحواديت في فيلم لا ينسي عن الماضي والذكريات التي لا تموت، وعن الحب الذي لا يضيع، وعن السينما التي تشفي صناعها من جراح الواقع المؤلم!