وقفت وحيدًا في ساحة الجدال.. وقد كان جدالاً كالقتال.. نلت أسوأ التوصيفات.. وشوهتني عشرات المقالات.. وحاولت العصف بي هائلات من الكتابات.. ذلك أنني تعاملت مع محمد حسنين هيكل بما يستحق. كان هذا في نهاية مارس 2006.. حين كتبت في مجلة "روزاليوسف" مقالاً افتتاحيا عنوانه (هيكل.. الأُلعبان).. ولم يقرأ كثير ممن هاجموني المقال.. لكنهم توقفوا عند العنوان.. كلمة (أُلعبان).. وهي لغويا تعني (كثير اللعب). الآن وأنا أكتب هذا التقديم لتوثيق معركة خضتها منفردًا (تقريبًا) طيلة ثلاث سنوات.. أجدني لست وحيدًا.. وفي نفس الصف عشرات من الذين صددت عنهم بصدر قلمي نيران المساس بالذات التي يقدسها البعض للكاتب المثير للجدل والمسيء لتاريخ الصحافة المصرية.. ومع اقتراب شتاء 2009 كان الكثيرون قد تحولوا.. وكان الكثيرون قد وجدوا أن عليهم أن يصرحوا بما كانوا يقولونه سرًا بعيدًا عن الصفحات المنشورة. انهارت الأسطورة.. أسطورة كونه (كاتبًا مقدسًا) لا يمكن الاقتراب منه أو المساس بما يقول.. واعتبار كتاباته أقرب إلي أن تكون قرآناً.. تتلي وتنقل وتفسر ويحتفي بها.. ويصلي بنصوصها دراويشه في كل زاوية وعند كل مقال.. حين تصبح المقالات تسابيح وتراتيل.. معاذ الله. لم أكن حالة متفردة منفردة.. هناك ومضات كانت تضيء من حين لآخر لكنها محدودة وكانت تحارب علي الأقل ليس في جيلي من فعل.. لكنني وجدت مساعدة من هيكل نفسه لكي أدق الكلمات في نعش أسطورته. كان شحيحًا.. فأصبح متاحًا مترهلاً.. هيكل. كان نادرًا.. فصار مملاً متكررًا. كان مترفعًا.. فتحول رطانًا.. يتكلم في كل وقت.. وبدلاً من أن يكون لديه مقال أسبوعي أصبح مذيعًا في برنامج يبث كل خميس في قناة الجزيرة. توقف عن إنتاج الكتب.. ومنها يمكن الإمساك بوجهات نظر تخضع للتقييم.. واستمرأ إنتاج الأحاديث التي تنشر في تلك الصحيفة الخاصة أو هذه.. علي أنها حوارات في حين أنها أسئلة وأجوبة سابقة التجهيز.. ورسخ حالته (الكاتب الشفوي) الذي يقول كلامًا في مجالس ثم يحوله إلي مقالات يراجعها.. وكنت أنا أول من أطلق عليه وصف (الكاتب الشفوي) كما كنت من وصفه بأنه (الكاتب المقدس) أو للدقة الذي يريدونه مقدسًا. لقد خضت معارك كثيرة.. سوف أوثقها.. لكن تلك كانت معركة مختلفة.. وقد كان نضالي الأساسي في اتجاه هيكل أن أؤكد معني أنه ليس مقدسًا.. لا ككاتب ولا ككتاب.. وإن علينا أن نطرحه للنقاش.. وأن يقبل هو ومن تحلقوا حوله هذا المبدأ.. وأنه لا يجوز في عصر الديمقراطية أن تصر علي أنك (الكاتب المحتكر).. تحتكر الرئيس مصدرًا.. وتحتكر المعلومات منهلاً.. وتحتكر الرأي منبرًا.. وتحتكر الأدلة وثائق.. وتظن أنه لا ينبغي أن يكون هناك صوت غير صوتك.. فقد تغير الزمن.. وتبدلت الأحوال.. وصارت في مصر أجيال غير الأجيال. الآن.. وقد قلبت ظاهرته علي أوجه كثيرة.. وجادلت منطقه في مرات مختلفة.. كيف أنظر إلي تلك الحالة التي يمثلها محمد حسنين هيكل في الوسطين الصحفي والسياسي المصري؟ يقول مريدوه: إنه كاتب كبير(!).. وقد يكون.. ولكن الكبير لا يكذب. ويقول تابعوه: إنه مؤرخ عظيم(!).. وقد يكون.. ولكن العظيم لا تعتمر رواياته بالثقوب التي تكشف خواء المنطق وانهيار السياق وتلاشي الموضوعية. ويقول معجبوه: إنه عقل جبار.. وقد يكون.. ولكن العقول لا تقيم إلا من خلال نتائج أفعالها.. فإن كانت خيرًا مثلت إضافة وبناء.. وإن كانت شرًا تحول أصحابها إلي شياطين. ويقول عاشقوه: إنه رائع الأسلوب وجميل اللغة.. وقد يكون.. ولكن الرائعين لا ينقشون الزيف باللغة.. ولا يموهون الحقائق بالأسلوب.. واللغة في الصحافة ليست مجرد كلمات منمقة ومفردات جزلة.. والأسلوب ليس عبارات موزونة وجملاً موسيقية.. وكلاهما لا قيمة لهما حين يتحولان إلي أداة لبيع الترهات. والترهات في معجم لسان العرب تساوي (التهته).. وهي لغويا تعني الأباطيل. لقد اكتسب محمد حسنين هيكل مكانة مصطنعة في تاريخ الصحافة المتداول شفويا.. ولا أقول المكتوب والموثق.. ووصف بأنه صحفي هائل القيمة.. وفي الثقافة العامية يقولون (الصيت ولا الغني).. وقد تمكن هيكل من أن يحيط نفسه بصيت هائل.. مكينة مرعبة من الدعاية.. حاولت أن تطيح بصناع الصحافة الحقيقيين في تاريخ الصحافة المصرية. أنا هنا أفرق بين الكاتب وبين الصحفي صاحب البصمة المهنية، وقد كانت بصمة هيكل سياسية، وليست كل بصمة علامة في التاريخ.. فالمعامل الجنائية تبحث أيضًا عن بصمات الجناة لكي تستدل عليهم.. وفي ال (فيش وتشبيه) ما يؤكد أنه ارتكب جرمًا في حق الصحافة. من مقدمة كتابي الجديد (الحاوي تاريخ علاقة الكاتب والرئيس في مصر).. ويصدر خلال أيام عن دار مصر المحروسة في نحو 50 ألف كلمة. الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net البريد الإليكتروني : [email protected]