الأحد هذا الاسبوع دعيت لحضور احتفالية بمرور ثلاثين عاما علي وفاة المناضل المصري الكبير زكي مراد في نقابة الصحفيين. قامت الاحتفالية تحت رعاية لجنة الحريات التي يرأسها الأستاذ محمد عبدالقدوس. كان ذلك أول ما يلفت النظر خاصة أن محمد عبدالقدوس عرف بميوله الإسلامية لكنه لم يكن لافتاً لنظري ذلك أني رغم عدم وجود صلة مباشرة بيني وبين محمد عبد القدوس أراه من زمان شخصا حالما ومثاليا علي غير العادة فيما نراه من متشددين يرفعون شعار الاسلام .كونه حالماً ومثالياً يدل عليه ببساطة كثير جدا مما يكتبه وايضا ما أخذه البعض عليه من وقوفه وحيداً بالميكروفون علي سلم النقابة يدعو إلي التغيير والثورة. ثم إنه وهو ابن العز والعائلة الكريمة لا يبدو متكبرا بل نضح الاسلام الحقيقي عليه كل سماحة ممكنة .ثم من ينكر قيمة والده العظيمة وجده وجدته- رحمهم الله-. ذهبت لحضور هذه الليلة، فالمرحوم زكي مراد لم يكن وجوده في حياة جيلي بالعبور العابر. ورغم أني لم أسعد بلقائه بشكل مباشر .لكني كنت أعرف نضاله الوطني منذ اللجنة العليا للعمال والطلبة في مصر عام 1945 ودوره في تأسيس الأحزاب الشيوعية مع فريق عظيم من أبناء النوبة مثل مبارك عبده فضل الذي كان لي حظ اللقاء والعمل معه كثيراً فترة انتمائي للعمل السري في السبعينيات ومحمد خليل قاسم الذي لم ألقاه أبداً لكن كانت روايته الشمندورة ومازالت فتنة للأدب الروائي المصري والعربي. كانت أسماء زكي مراد ونبيل الهلالي وعبدالله الزغبي هي الاسماء الأكثر شهرة بل والاساسية في الدفاع عن الشيوعيين واليساريين عموما الذين انشغل بهم النظام كثيرا في حقبة الرئيس السادات وبعده بقليل، وكانت تلفق لهم القضايا كل يوم تقريبا وكانوا هم الحقيقة المناضلين الذين يملأون الساحة فكانوا قادة انتفاضة يناير عام 1977 وحاملي لواء الكفاح والمعارضة ضد اتفاقية كامب ديفيد والتطبيع مع العدو الصهيوني. لقد انشغل بهم النظام أكثر من كل وقت حتي بعد أن صار هناك حزب علني هو حزب التجمع الذي انضوي الكثيرون تحت صيغته الوحدوية فكان النظام يطارد الجميع ويصادر اعداداً متوالية من جريدة الاهالي وعلي الناحية الأخري كان يساعد التيارات الاسلامية التي نمت فيها الأجنحة المتطرفة واستطاعت أن تسرق الارض من تحت أقدام اليسار بدعم النظام وبتعب اليسار من الضربات المتكررة وبالدعم المالي من السعودية وأمريكا وغيرهما حتي استفحل أمرها فقتلت السادات نفسه. كان المرحوم زكي مراد قد مات في حادث أليم عام 1979 علي الطريق الزراعي وهو في طريقه إلي الاسكندرية ليحضر اجتماعا للحزب الشيوعي المصري وقال شهود العيان إن سيارة مرت علي يساره وضغطت عليه ليخرج إلي النهر الآخر للطريق فتصطدم السيارة الملاكي بسيارة نقل وتقع الواقعة. لقد ذهب المناضل فوزي حبشي بعد أربع ساعات إلي مكان الحادث فوجد حقيبة المناضل زكي مراد قد فرغت من محتوياتها من الأوراق الخاصة بالعمل الحزبي. وقبل ذلك كان الرئيس السادات قد طلب لقاء زكي مراد الذي رفض اللقاء. كل ذلك قيل في ذلك الوقت وعرف وأعيد هذه الليلة مع كلمات لمناضلين ومثقفين وكان الشاعر المناضل زين العابدين فؤاد يدير الليلة ومعه صفاء زكي مراد المحامية الكبيرة ابنة المرحوم الشهيد زكي مراد. ارتفعت الشعارات "عاش نضال الشيوعيين" كما ترتفع في كل مناسبة وداع لمناضل من المناضلين وارتفع شعار "عاشت الجبهة الوطنية" وهي حلم زكي مراد القديم الذي وجدها حلا وحيدا أمام السياسة الساداتية ومازالت حلم كل المعارضين حتي الآن الذين فيما يبدو صاروا عاجزين عنها تماما. كنت أعرف قبل أن أذهب أنني ذاهب لأشم شيئا من الماضي الجميل. قابلت كثيرا من أصدقائي القدامي وكثيرا من الاصدقاء الجدد وكثيرا من قرائي الشباب. لم نتحدث في شيء الا الاحوال الصحية وعلي وجوههم كما كان علي وجهي تبدو أمارات السعادة بهذا اللقاء الذي وفره لنا صناع المناسبة وجلس جواري بعض الوقت فنان الكاريكاتير الموهوب سمير وقال لي أريد أن أسالك سؤالا، قلت له: اتفضل قال: أنا يقصد هو كلما تحدثت مع أحد من الشعب عن الأحوال وجدته يقول إننا في أحسن حال وكلما تحدثت مع أحد في التغيير يقول لي لماذا اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش وبعدين إفرض غيرنا النظام حتيجي ناس تانية تبدأ من الاول دول شبعانين" وأحسست بشيء من الأسي في كلامه وقال لي إني أقصد هو سألت الفنان الكبير حجازي لماذا توقفت عن الكاريكاتير فقال: لم يعد هناك شيء يمكن ان أقوله، لقد قلت كل شيء. أحسست بالأسي في كلام سمير وقلت له حجازي من الجيل الذي حلم بكل الاحلام العظيمة بعد ثورة يوليو. الاشتراكية والوحدة العربية والعدل والمساواة وتحرير فلسطين. وحجازي وكل من أدركوا الثورة في عزها حلموا بذلك وأنا منهم رغم اني أحدث ظهورا من حجازي وكلنا انقلبت أحلامنا إلي كوابيس وانفرط عقدها وطبيعي جداً أن يتوقف حجازي صادقا مع نفسه ومثلي يكتب لأنه بغير الكتابة قد يجن. فالكتابة لي هي أقرب للعلاج كما أني مازلت علي أمل في شيء أفضل أما جيلكم يا عزيزي سمير فلقد ظهر في زمن بلا أحلام. أنت لم تر مصانع تقام ثم تراها بعد ذلك تباع برخص التراب ولم تر انتصار أكتوبر ثم صلحا مع العدو بثمن أقل ولم تر أشياء كثيرة ضاعت . أنتم أبناء أشياء أخري وأحلام طبيعية لم يعد الكلام فيها مشكلة، أن تكون هناك ديمقراطية كاملة، أن تكون هناك مساواة في العمل وفرص العمل وعلاج وتعليم وغير ذلك مما ينقص البلاد رغم أنها تخلصت من كل آثار يوليو. ومهما يحدث من خيبات أمل فهي ليست مثل ما شعر به جيلنا والأجيال الأسبق لذلك إياك أن تفكر علي طريقة الفنان العظيم حجازي واستمر في ابداعك ثم إنك تري المجتمع حولك يتحرك حتي ولو كانت حركته أجنة صغيرة هنا أو هناك. بعد قليل قام سمير وخرج ليلحق بافتتاح أحد المعارض وظللت أنا أفكر في طعم الأيام الجميلة الذي كان يصنعه مناضلون مثل زكي مراد وأقابل أصدقائي ومن هم أكبر وأصغر مني وأشعر بكثير من الأمل حتي ولو كان ذلك في ذكري عابرة .لكنها ذكري تختلف لأنها من ماض لم يكف فيه المصريون عن الحلم بالحياة. لم تكن الآخرة فيه افضل من الدنيا. فلم يكن هذا العزوف عن العمل السياسي ولم تكن الاحزاب تعاني كل هذه الانقسامات ولم ولم ولم. أشياء كثيرة جعلت المواطن يتمني فقط العودة إلي بيته في موعده.