كان "ملتقي الإعلام العربي الأول" الذي استضافته المنامة فرصة للتأكد من أن في مملكة البحرين مكاناًَ لكثير من التواضع ولكن هناك أيضا مكاناً لكثير من الطموح في منطقة أقل ما يمكن أن يوصف الوضع فيها بأنه في غاية التعقيد. لا يعني التواضع في أي شكل التخلي عن الجرأة في التصدي للمشاكل المطروحة علي الصعيدين الداخلي والإقليمي، بما في ذلك السعي الدءوب إلي بناء البلد علي أسس متينة تقوم علي تنويع الاقتصاد والسير في الإصلاحات السياسية إلي النهاية بغض النظر عن العراقيل التي تواجه التجربة التي تمر بها المملكة، خصوصا في السنوات العشر الأخيرة بعدما تولي زمام القيادة الملك حمد بن عيسي آل خليفة. كان التواضع الذي يعكس مقداراً كبيرًا من الرغبة في تنمية الثروة البشرية، في بلد يعرف حدود إمكاناته وأهمية موقعه، واضحًا طوال جلسات "ملتقي قادة الأعلي". أظهر الملتقي الذي رعاه رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة أن البحرين مصممة علي تخطي الحواجز التي تحول دون بناء دولة عصرية أيا تكن الصعوبات. وبدت الخطوة الأولي في هذا المجال الكلام الصريح عن الواقع العربي وعن التحديات التي تواجه الإعلام وعن أهمية الحرية. كان لافتًا في الجلسة الأولي ل"الملتقي الإعلامي" الذي يعود الفضل في تأسيسه إلي الزميل ماضي الخميس، التركيز علي الحرية. لعب الزميل ماضي دورًا أساسيا عبر الملتقي في جمع أكبر عدد من الصحفيين القادرين علي المساهمة في تطوير المهنة علي الصعيد العربي. كان هناك ممثلون لقطاعات إعلامية حكومية في دول خليجية وغير خليجية طالبوا بهامش أكبر من الحرية. كان هناك إدراك لمدي أهمية التكنولوجيا وتمكن العالم العربي من التعاطي مع الثورة التكنولوجية واستيعابها وتوظيف ما توفره من تسهيلات في خدمة الإعلام الحر بدل أن يكون مجرد عبد لها. وكان هناك في الوقت ذاته خوف لدي عدد لا بأس من المشاركين في الملتقي من تأثير المال علي الإعلام وتحكمه به. بدا أن هناك وعيا، أو علي الأصح بداية وعي، لخطورة الاعتقاد بأن المال يمكن أن يصنع إعلامًا، فتصبح هناك صحافة من دون صحفيين. وهذه حال بعض الصحف العربية الآن. إنها صحف تعتقد أن كمية الإعلانات التي فيها، وهي عائدة إلي ارتفاع أسعار النفط في مرحلة معينة أساسًا، تغني عن الاستعانة بصحفيين حقيقيين أو بالتنبه إلي أهمية العامل المهني في عمل الصحيفة، أي صحيفة. نبه غير مشارك في الملتقي إلي أهمية الجانب المهني في العمل الصحفي ووجوب عدم ترك المال يؤثر علي تحديد من هو صحفي ومن هو غير صحفي. وذهبت الجرأة بمشاركة في اللقاء إلي الإشارة إلي الدور الذي تلعبه بعض القنوات الفضائية في تشجيع ظاهرة التطرف في المجتمعات العربية. وحذرت حتي من أن بعض القنوات الدينية صارت "قنوات تسلية"! كان مهمًا أن يستمع المشاركون في الملتقي إلي السيد محمد بن عيسي وزير الخارجية المغربي السابق الذي رأس الجلسة الأولي من الملتقي. وبن عيسي المتمرس بالصحافة والإعلام، إذ بدأ حياته المهنية صحفيا وإعلاميا، تحدث عن توازنات جديدة في العالم وكيف أن العولمة لم تنجح كما كان متوقعًا بمعناها السياسي والاقتصادي مشيرا إلي بروز قوي جديدة في العالم. إما الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزيرة الثقافة والإعلام والمهتمة بأدق التفاصيل التي تضمن النجاح الإعلامي والثقافي للبحرين، فقد حددت ما تطمح إليه المملكة من خلال استضافتها للملتقي. أوضحت أن الأمر يندرج في إطار المشروع الإصلاحي للملك حمد بن عيسي "الذي ارسي دعائم راسخة للبناء والتحديث والانفتاح علي العالم واحترام حرية الكلمة والنظرة الشاملة للافق العربي والدولي مع مواكبة كل تقدّم ومساندة كل عمل عربي مشترك ودعم كل تقارب بين الدول والشعوب" مضيفة: "أن الانتصار لحرية الكلمة والرأي والتغيير مؤشر جوهري إلي تعزيز فضاء الاتصال والحوار". مهم أن يصدر مثل هذا الكلام عن وزير عربي للثقافة والإعلام. وما قد يكون أهم من ذلك، أن يترافق الكلام مع أفعال توفر له صدقية. ففي البحرين صحف معارضة بالفعل مستعدة لتوجيه الانتقادات الحادة إلي الحكومة. وهي انتفادات محقة أحيانًا كما أنها من باب الافتراء في أحيان أخري. بهدوء وتأنٍ ومزيد من التواضع، تتابع البحرين تجربتها التي تشبه إلي حد ما، وفي بعض النواحي، تجربة سلطنة عمان. ما هو مشترك بين سلطنة عمان ومملكة البحرين لا يقتصر علي التواضع فحسب، بل علي التهذيب والذوق في التعاطي مع الآخر ايضا. هناك شعب مهذب في البحرين كما في سلطنة عمان. وهناك في البحرين، التي انطلقت منها نهضة التعليم في المنطقة، سعي دءوب إلي المحافظة علي التراث بعيدا عن المبالغات، حتي لا نقول عن قلة الذوق. ما يقوم به "مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة" يعطي فكرة عن أهمية عامل الذوق في المحافظة علي التراث. انشأ المركز بيوتا تراثية عدة، بينها بيت لتراث البحرين الصحفي وآخر للشعر وبيت للأطفال ومكتبة لهم ومركز للمعلومات. إنه ادراك في العمق لدور الثقافة في محاربة الفكر الإرهابي والتطرف الديني بكل اشكاله. ليس سرًا أن البحرين تواجه تحديات كثيرة، خصوصًا أن أوساطًا في إيران لا تتترد بين الحين والآخر في التذكير بمطامعها في المملكة، مستندة إلي قدرتها علي إثارة الغرائز المذهبية. وليس سرًا أيضا أن البحرين عرفت دائمًا كيف تواجه هذه التحديات الخطيرة من دون أن تفقد البوصلة التي تدل علي الاتجاه الصحيح. الاتجاه الصحيح هو الإصلاحات والتعاطي مع ما يدور في العالم بكل ايجابية وتكريس الدور المالي للمنامة علي صعيد المنطقة. يحصل كل ذلك بهدوء وكثير من التواضع بعيدا عن أي نوع من المبالغات. إنها الوسطية كما تمارس في مملكة تعرف دائما أن عليها مواجهة تحديات من نوع خاص جدًا عائدة إلي تركيبتها الاجتماعية وموقعها الاستراتيجي وقلة الدراية العربية فيما هو مهم اقليميا في بعض الأحيان!