في الوقت الذي دخل فيه خيار التفاوض نفقا مظلما، وفقا لتصريحات الرئيس محمود عباس، وخيمت حالة من "اللاسلم واللاحرب" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع وصول "العملية السياسية" إلي طريق مسدود واستعصائها علي إعادة الإطلاق في ظل الظروف الراهنة، عاد التفكير الإسرائيلي الخاص بقيام دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة ليطفو علي السطح مجددا، مما فتح الباب أمام عديد من التساؤلات المهمة تتصل في جانب منها بتحديد مضمون علي الصيغ التي جسدت، حتي الآن، هذا الطرح، وفي جانب آخر بتوضيح مبرراته ودوافعه في هذا التوقيت، وهو ما يمكن أن تساعد النقاط التالية علي إلقاء الضوء عليه: 1- برز الشكل الأول من هذا الطرح علي لسان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، شاؤول موفاز، الرجل الثاني في حزب كاديما المعارض، وقد بدا الموضوع هاما إلي الحد الذي تم تنظيم مؤتمر صحفي في السابع من نوفمبر 2009 عقد في تل أبيب لتقديمه. وقد تضمنت الخطة انفتاحا غير مسبوق علي التعامل مع حركة حماس؛ حيث عبر موفاز عن الاستعداد للتفاوض معها، في حال فوزها في الانتخابات الفلسطينية المرتقبة، وقبولها الجلوس إلي طاولة المفاوضات، بما يعنيه ذلك من موافقتها علي شروط الرباعية الدولية القاضية بالاعتراف بإسرائيل والاتفاقات الموقعة معها ونبذ العنف. ومن حيث الجوهر، تم اقتراح قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة علي 60% من الضفة الغربية وقطاع غزة، في مرحلة أولي علي أن تقود نهاية العملية السلمية إلي حصول الفلسطينيين علي مساحة معادلة لمساحة الضفة الغربية، وليس علي حدود عام 1967. 2- بعد مرور أقل من أسبوعين، كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية في عددها الصادر في 19 نوفمبر2009، عن وجود طرح مماثل في الجوهر يتبناه الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز (حزب كاديما) ووزير الدفاع إيهود باراك (حزب العمل)، يقضي بقيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة علي نصف مساحة الضفة الغربية، مع تقديم ضمانات بحصول الفلسطينيين في نهاية المفاوضات خلال عامين علي مساحة أرض مساوية للمناطق المحتلة عام 1967، في مقابل ضمانات يتعرف من خلالها الفلسطينيين بشكل لإسرائيل بطابعها كدولة يهودية. وقد تركت الصحيفة الانطباع بأن زعيم الليكود ورئيس الحكومة الإسرائيلية علي معرفة تامة بهذا الطرح، ولا يمانعه. 3- من الملاحظ أن كلا الطرحين قد أشارا إلي "دور أمريكي"؛ فعلي حين حرص الرجل الثاني في حزب كاديما علي التأكيد علي أنه صاغ مبادرته خلال نصف العام الأخير وبدعم أمريكي، كشفت صحيفة معاريف عن أن كلا من الرئيس الإسرائيلي ووزير دفاعه يضغطان منذ عدة أشهر علي الإدارة الأمريكية للموافقة علي خطتهما. ولعل كل ذلك يدفع في اتجاه يعزز من مصداقية ما رددته بعض المصادر الفلسطينية من تراجع الرئيس باراك أوباما عن عقد مؤتمر صحفي كان مقررا في الرابع والعشرين من أكتوبر الماضي يحدد فيه موقف إدارته النهائي من المفاوضات ورؤيته للدولة الفلسطينية التي تؤيد الولاياتالمتحدة قيامها جنبا إلي جنب مع إسرائيل، ففي مواجهة إجماع قوي إسرائيلية مؤثرة علي فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة، كان من الصعب علي سيد البيت الأبيض أن يلزم نفسه باتجاه مخالف قد يصطدم بالتوجهات الإسرائيلية الحالية أو المستقبلية، بما يقود إلي المزيد من توتير العلاقات مع إسرائيل واللوبي اليهودي علي الأراضي الأمريكية، وهي ما شهدت تقلبات كبيرة مؤخرا نتيجة لمواقف أعلن عنها الرئيس الأمريكي بشأن الاستيطان، تعارضت مع التوجهات الإسرائيلية. 4- أما من حيث التوقيت، فإنه تبرز مجموعة من العوامل تبرر مثل هذا التحرك الإسرائيلي، حتي وإن كان في جانب منه من خلال تسريبات إعلامية أو في مشاورات تجري وراء الكواليس مع العديد من الأطراف، ومن بين هذه العوامل يمكن الإشارة إلي ما يلي: * تبلور ملامح العزلة السياسية لإسرائيل علي الساحة الدولية، فمع وصول "العملية السياسية" إلي طريق مسدود في ضوء رفض السلطة الفلسطينية استئناف المفاوضات في ظل الاستيطان، وإصرار الحكومة الإسرائيلية علي المضي قدما في مخططاتها الاستيطانية، خاصة في القدسالشرقية، التي اعتبرت القيادة الإسرائيلية أن عملية البناء فيها أمر عادي تنطبق عليه نفس القواعد السارية بشأن جميع المدن الإسرائيلية. وقد شكل هذا الموقف جوهر التبرير الذي قدمه المسئولون الإسرائيليون لقرار بناء 900 وحدة سكانية جديدة في مستوطنة جيلو التي تعتبرها إسرائيل جزءا من بلدية القدس الكبري. وفي هذا السياق، كان من الضروري أن تحاول إسرائيل العمل علي إعطاء الانطباع بأنها ليست الطرف الذي يعوق مسيرة السلام، بل أنها تتقدم بمقترحات يمكن تسويقها علي الساحة الدولية، في ضوء تبنيها فكرة قيام دولة فلسطينية التي تحظي بتأييد دولي من جانب، واعتمادها التفاوض كأسلوب للوصول إلي التسوية النهائية من جانب آخر. * التحرك الفلسطيني علي الساحة الدولية لحشد التأييد لإعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة، الأمر الذي تعارضه القيادة الإسرائيلية بقوة، وإن كانت تخشي أن يحظي، مع مرور الوقت واستمرار المواقف الإسرائيلية علي ما هي عليه، بتأييد متزايد يزيد من هشاشة الموقف الإسرائيلي دوليا، ويضع الولاياتالمتحدة تحت المزيد من الضغوط لاتخاذ مواقف قد لا تتماشي مع المصالح الإسرائيلية خاصة مع انتهاء انتخابات التجديد النصفية للكونجرس الأمريكي مما قد يحرر الرئيس أوباما من الضغوط الانتخابية التي تفرضها عليه مساندة الديمقراطيين المعتمدين علي الصوت اليهودي، انتظارا لموعد ترشحه لولاية ثانية. * التخوف من احتمالات تلاقي مواقف الفصائل الفلسطينية المتصارعة حاليا في موقف واحد يبتعد عن صيغة المفاوضات وفقا للنموذج الذي تفضله إسرائيل، خاصة في ضوء خطاب الرئيس محمود عباس في الخامس من نوفمبر 2009، والذي كشف بوضوح عن عدم جدوي أسلوب التفاوض وفقا للنموذج الحالي، وإن أوضح أن خيار الدولتين مازال قائما ولكن وفقا للمطالب الفلسطينية المشروعة، مما يقربه أكثر فأكثر من مواقف الفصائل الفلسطينية الأخري، وعلي رأسها حماس، دون أن يعني ذلك بالضرورة تبني خيار المقاومة المسلحة بشكل واضح وصريح. * السعي الدائم للعب علي الخلافات الفلسطينية خاصة في ظل الجدل الدائر حول إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها الدستوري بغض النظر عن إتمام المصالحة الفلسطينية. ويمكن تصنيف الطرح الذي تقدم به وزير الدفاع السابق موفاز في هذه الخانة، في إطار سعيه للوصول إلي رئاسة حزب كاديما التي مازال يشعر أنه الأجدر بها، وأنه ما كان عليه أن يضحي بموقعه في الليكود ليكون مجرد عضو في كاديما تحت رئاسة تسيبي ليفني. وفي ضوء ما تقدم، يبرز أن الطرح الخاص بقيام دولة فلسطينية مؤقتة، يعكس مناورة جديدة تشارك فيها النخبة الإسرائيلية "البراجماتية"، وترضي تلك "الدينية"، خاصة وأنه يضمن لإسرائيل الحصول علي الكتل الاستيطانية، والقدس ربما باستثناء سلطة معنوية للفلسطينيين علي الأماكن المقدسة، وفوق كل هذا اعتراف واضح وصريح بيهودية الدولة.