يواجه الرئيس الفلسطينى محمود عباس موقفاً لا يحسد عليه على الصعيدين التكتيكى والاستراتيجي. فقد بات عليه، بصفته رئيساً للسلطة الفلسطينية، أن يسعى لإنقاذ ما تبقى من هذه السلطة والتى تآكلت شرعيتها وفقدت من هيبتها ورصيدها الشيء الكثير حتى أصبحت أشبه بمريض يعيش بوسائل تنفس اصطناعى داخل غرفة إنعاش سيئة التجهيز. كما بات عليه، بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن يسعى لإنقاذ ما تبقى من حركة تحرر وطنى كان قد بدأ عقدها ينفرط وتتناثر حباته فى كل اتجاه حتى أصبحت وكأنها طائرة ضلت طريقها فى الجو وأصبحت على وشك السقوط بعد أن نفد الوقود وسدت أمامها كل سبل المناورة، بما فى ذلك إمكانية القيام حتى بعملية هبوط اضطرارى آمن! ويكفى أن نلقى نظرة فاحصة على الوضع الحالى لكل من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية كى نصل إلى نتيجة واحدة مفادها أن القضية الفلسطينية باتت تواجه خطر تصفية حقيقية ونهائية. لذا ليس من المستغرب أن يشعر كثيرون، وأنا واحد منهم، بأنه ما لم تحدث صحوة ضمير فورية من جانب كل الفرقاء والأطراف الفلسطينيين، مصحوبة بصحوة ضمير مماثلة وموازية من زعماء العالمين العربى والإسلامي، فسوف تدخل قضيتهم المركزية فى مرحلة سبات عميق وسيتعذر على الشعب الفلسطينى الصامد والصابر أن يلملم أطرافه ويستعيد زمام المبادرة فى يده من جديد قبل فترة مقبلة لا يعلم إلا الله وحده كم تطول. يصعب التشكيك فى حقيقة تبدو الآن ساطعة كالشمس فى وضح النهار وهى أن السلطة الفلسطينية فقدت الكثير من شرعيتها على الصعيدين القانونى والسياسى نظراً لشكوك قوية باتت تحوم حول شرعية وجود محمود عباس فى منصب الرئاسة منذ 24 كانون الثانى (يناير) الماضي. ولأن الدستور الفلسطينى قاطع فى تحديده فترة الولاية الرئاسية بأربع سنوات فقط قابلة للتجديد لفترة ولاية ثانية، فمن الطبيعى أن يبدو منصب رئيس السلطة الفلسطينية فى نظر كثيرين شاغراً، من الناحية الدستورية البحتة، نظراً إلى أن الانتخابات الرئاسية لم تجر فى موعدها المقرر ولأن رئيس المجلس الوطنى الفلسطيني، أو نائبه فى حالة الضرورة، هو من يحق له شغل هذا المنصب إلى أن تجرى انتخابات رئاسية جديدة. صحيح أن الرئيس الفلسطينى استند فى رفضه إجراء الانتخابات الرئاسية فى موعدها إلى قانون ينص على ضرورة تحقيق التزامن بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وصحيح أيضاً أن الجامعة العربية أصدرت قراراً تعترف فيه بشرعية التمديد لعباس لسنة إضافية كى يمكن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة فى كانون الثانى (يناير) 2010، غير أن هذه الأسانيد لا تكفى لملء فراغ دستورى واضح، لسببين. الأول: عدم جواز تقديم القانون على الدستور، والثاني: عدم جواز الاستناد الى الشرعية السياسية كبديل للشرعية الدستورية، خصوصاً أن الشرعية السياسية لمحمود عباس خلال فترة التمديد تستمد قوتها من قدرته على إجراء مصالحة وطنية تتفق بموجبها الأطراف الفلسطينية على موعد وشروط الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، وهو ما لم يحدث. فى سياق كهذا من الطبيعى أن يثير المرسوم الذى أصدره السيد محمود عباس بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة فى كانون الثانى (يناير) المقبل لغطاً كبيراً من شأنه أن يسهم فى تأجيج نار الخلافات بين مختلف الفصائل الفلسطينية على رغم سهولة العثور على حجج قانونية وسياسية لتبريره. فعلى الصعيد القانونى يسهل تبرير هذا المرسوم بحالة ضرورة يفرضها غياب المصالحة الفلسطينية والتى يصعب من دون الانضواء تحت خيمتها إجراء انتخابات جديدة متفق على موعدها من جانب مختلف الفصائل. أما على الصعيد السياسى فيسهل تبريره بحالة ضرورة نتيجة رفض حركة «حماس» أو مماطلتها فى توقيع اتفاق المصالحة. غير أن بوسع الفريق الآخر أن يعثر فى الوقت نفسه على حجج قانونية وسياسية لا تقل وجاهة تبرر رفضه ومعارضته القاطعة لهذا الإجراء. لذا فلن تغير حجج هذا الفريق أو ذاك من الأمر الواقع شيئاً أو من حقيقة أن هذا الإجراء يدق مسماراً جديداً فى نعش حركة وطنية فلسطينية يسعى كثيرون، بوعى أو من دون وعي، لتشييع جثمانها ودفنها مرة واحدة وإلى الأبد ومعها قضية الشعب الفلسطيني. إلقاء اللوم على هذا الطرف أو ذاك لن يجدى شيئاً أو يقدم نفعاً لحركة وطنية فلسطينية يتعين العمل على حمايتها إلى أن تتمكن من الوصول إلى أهدافها بإقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وعلى رغم قناعتى التامة بارتكاب «حماس» الكثير من الأخطاء، خصوصاً منذ فوزها بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، إلا أن الرئيس محمود عباس يتحمل، فى تقديري، الجانب الأكبر من المسؤولية عما آل إليه الوضع الفلسطينى لأنه تصرف طوال الوقت باعتباره رئيساً لحركة «فتح» أو رئيساً لسلطة فلسطينية لا تملك من أمرها شيئاً ونسى دوره الأهم والأكبر، والذى يجعله المسؤول الأول عن حماية الحركة الوطنية الفلسطينية بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. ربما تكون الرغبة فى تسجيل هدف فى مرمى «حماس» فى هذا التوقيت بالذات، خصوصاً فى أعقاب الفضيحة الكبرى التى فجرها قرار طلب تأجيل عرض تقرير غولدستون على مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان فى جنيف، هى التى زينت للرئيس محمود عباس إصدار مثل هذا المرسوم. غير أن رئيس السلطة الفلسطينية لم ينتبه إلى أن المستفيد الوحيد من هذا الهدف، بافتراض احتسابه سواء من جانب الحكم أو من جانب الجمهور، هو الطرف الإسرائيلي. ولأن العبرة هى بالنتائج النهائية التى قد تترتب على هذا المرسوم، فلن يكون بوسع أحد أن ينكر أن أية انتخابات ستتم وفقاً لهذا المرسوم ستكرس الانقسام الفلسطيني، وربما تحول السيد عباس نفسه إلى رئيس لبلدية رام الله، وستؤدى إلى اشتعال الصراع من جديد بين سلطة أو «بلدية رام الله» وبين سلطة أو «الإمارة الظلامية» فى غزة. أما إسرائيل فسيسهل عليها أن تدعي، وسط لهيب هذا الصراع الدامي، بعدم وجود طرف فلسطينى يتمتع بما يكفى من المصداقية للتفاوض معه، والأرجح أن يصدقها كثيرون فى هذه الحالة. ولأن أطرافاً دولية وعربية كثيرة تتحين الفرصة لتعلن عن رغبتها الدفينة فى نفض يدها نهائياً من القضية الفلسطينية، بادعاء أنه يصعب عليها أن تكون أكثر ملكية من الفلسطينيين أنفسهم، فمن المتوقع أن تدخل الحركة الوطنية الفلسطينية بهذه الانتخابات المشؤومة، إن تمّت، نفقاً مظلماً جديداً لا أظن أنها يمكن أن تخرج منه سالمة. بوسع المتأمل لمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، أن يلاحظ بسهولة أن هذه الحركة كانت قد وصلت ذروة نضجها عام 1968 بإقرار الميثاق الوطنى الفلسطينى بالإجماع، حين تم تحديد هدف النضال الفلسطينى بإقامة دولة علمانية ديموقراطية موحدة على كامل التراب الفلسطيني. غير أنه ما كان يمكن الوصول إلى لحظة النضج هذه لولا توافر إجماع عربى على عدم الاعتراف بإسرائيل وعلى مواصلة الكفاح ضدها بكل الوسائل الممكنة، بما فى ذلك العمل المسلح، إلى أن يتحقق حلم الدولة الديموقراطية الموحدة على كامل التراب الفلسطيني. لكن عندما بدأ عقد الإجماع العربى ينفرط عقب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ليصل ذروته بإبرام مصر لاتفاق سلام منفرد مع إسرائيل، بدأ عقد الإجماع الفلسطينى ينفرط بدوره. وفى كلتا الحالتين كان الاستبداد هو المسؤول الأول عن انفراط العقد على الصعيدين العربى والفلسطيني. فكما أقدم الرئيس السادات على زيارة القدس من دون أن يتشاور مع أحد، حتى مع أقرب مساعديه، أقدم الرئيس عرفات على إبرام اتفاقية أوسلو من دون أن يتشاور مع أحد. يعلم الجميع أن طريق التنازلات على الصعيد الفلسطينى بدأ بتبنى البرنامج المرحلى للمجلس الوطنى الفلسطينى عام 1974 ورفع شعار «إقامة الدولة الفلسطينية على أى جزء يتم تحريره من أرض فلسطين التاريخية». ثم جاءت الانعطافة الحادة فى اتجاه السقوط عام 1988 حين تم تبنى حل الدولتين رسمياً، ثم وقع السقوط الكامل بإبرام اتفاق أوسلو عام 1993 والذى تم فيه الاعتراف بدولة إسرائيل مقابل اعتراف هذه الأخيرة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطينى وقيادتها لسلطة حكم ذاتى تلتزم بمحاربة «الإرهاب» على الأراضى التى تنسحب منها القوات الإسرائيلية من دون التزام مقابل من جانب إسرائيل بالاعتراف بحدود 1967 أو حتى وقف الاستيطان خلال المرحلة الانتقالية. وقد توجت هذه التنازلات الخطيرة بحضور الرئيس كلينتون بنفسه إلى الأراضى الفلسطينية لا ليشهد إعلان الدولة الفلسطينية ولكن ليشهد فى 14 آب (أغسطس) عام 1998 حفل شطب 12 بنداً من الميثاق الوطنى الفلسطينى وتعديل 16 بنداً آخر كى تطمئن إسرائيل إلى أن السلطة الفلسطينية التى ستتسلم الأراضى التى سيخليها الجيش الإسرائيلى لم تتخل فقط عن الكفاح المسلح لكنها تلتزم أيضاً بمقاومة «الإرهاب» الفلسطيني. كل ذلك من دون أية ضمانات بقيام دولة فلسطينية مستقلة فى حدود 1967 وعودة اللاجئيين الفلسطينيين. أظن أنه حان الوقت أن تجلس كل الأطراف الفلسطينية معاً لتقييم مسيرة ما يسمى ب «العملية السلمية» بكل أمانة وتجرد، ليس بهدف توجيه اللوم أو محاولة التنصل من المسؤولية وإنما بغرض استخلاص الدروس المستفادة وتصحيح الأخطاء، إذا كانت هذه الأطراف مخلصة حقاً فى سعيها لانتشال قضيتها من الضياع أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأظن أيضاً أنه حان الوقت لكى تدرك الأطراف العربية، والتى يبدو بعضها سعيداً بما يحدث على الساحة الفلسطينية ويرى فيه فرصة سانحة لغسل يده من قضية لا يبدو على استعداد لتحمل نصيبه فى الدفاع عنها، أن الطريق الذى تسلكه السلطة الفلسطينية حالياً لن يلحق الضرر بقضية الشعب الفلسطينى فقط وإنما سيلحق الضرر على المدى الطويل بأمنه الوطني. لا أشك لحظة واحدة فى مستقبل قضية تبدو من فرط عدالتها ونبلها عصية على كل محاولات التصفية، ومع ذلك يجب ألا نقلل أبداً من خطورة حفنة تصر على أن تشيخ فى مواقعها حتى لو انتهى بها الحال الى الاستسلام على أن تفسح الطريق لأجيال شابة أكثر قدرة على ابتكار وسائل نضال أكثر عصرية وفعالية. لم يفت الأوان لكى يدرك الرئيس محمود عباس أن الانتخابات تحت الاحتلال ليست هى ولا يمكن أن تكون حلاً.