أعتقد أن كثيراً من المصريين يتمنون عودة تلك الأيام التي كانت فيها الدولة المصرية تمارس قدراً ظاهراً وقدراً خفياً.. ومؤثرا ومؤلماً من البلطجة الإقليمية.. ترهب هذا.. وتشتم ذاك.. وتتدخل في شئون ثالث.. وتفرض نوعاً من السطوة علي رابع.. وتلوح بالتهديد.. وتدبر المؤامرات.. وتقول أنها الحاكم الناهي.. لا تقبل بشريك.. ولا ترتضي بدور لأحد غيرها.. فإن أفلت من قبضتها أمر كان أن شنت علي من فعل ذلك أقسي الحملات وأعنفها. كنا هكذا بطريقة أو أخري.. حتي لو أن نظام الحكم وقتها كان يغلف كل هذا بحديث الزعامة.. ولغة القيادة.. وغطاء المشروع القومي.. الذي كان كل من يختلف مع أي من مفرداته يجب أن يوصف بأنه خائن.. أو عميل.. أو متآمر.. أو بالقليل جدا: رجعي ومتخلف ويسير عكس اتجاه التقدم والثورية. ليست هذه هي المرة الأولي التي أتطرق فيها إلي هذا الموضوع.. وكتبت من قبل عن زمن كانت فيه مصر تنابز الزعماء العرب بأخلاق وسيرة امهاتهم.. وكيف كانت برامج الإذاعة يمكن أن تسب العائلات.. وتشتم القادة.. وتصب اللعنات علي ذلك الرئيس وهذا الملك. واليوم أعود إليه لأكثر من سبب.. فقد أصبحت "المبدئية" تعطي انطباعاً بالضعف.. وصارت القيم الأخلاقية توحي بالخنوع.. وباتت القيم والقواعد تفتح باباً للاجتراء علي البلد.. من أول الشتائم إلي المؤامرات.. والمواطن يتساءل في مصر: ولماذا لا نرد.. وكيف نسكت.. وما هي أسباب الصمت.. وإلي متي نحتمل كل هذا العبث؟ والواقع أننا نعيش في إقليم يزداد انحطاطاً يوماً تلو آخر.. اختلطت فيه الأوراق.. وتعددت فيه الصراعات.. وانفلتت فيه المعايير.. بشكل حتي يتجاوز القبول الموضوعي بقاعدة انه: لا شرف في السياسة ولا أخلاق في المصالح.. ولا أدب في المنافع.. لاسيما حين تتعلق الأمور بمصالح الدول.. هذه القاعدة لم تكن تظهر إلا في حالات استثنائية.. وربما نادرة.. وحين تجد الدول أن عليها أن تلجأ إلي أساليب بعينها لكي تحافظ علي مصالحها.. لكن الآن ما يحدث هو أن الانحطاط أصبح قاعدة.. والتدني هو المنهج.. والقذارة هي الأسلوب.. بغض النظر عما إذا كانت تلك الدولة قليلة الأدب أو غيرها من الدول المنفلتة سوف تحقق مصلحة من ذلك أم لا.. قلة أدب من أجل قلة الأدب. أما وأن الحال أصبح هكذا.. فإن علينا أن نعيد طرح التساؤل: متي نكشف عن مخالبنا.. وأن نتخلي عن قيمنا.. وأن نتجاوز عن مثاليتنا.. لاسيما أننا في كل يوم نتعرض لحملات إعلامية مختلفة.. لا علاقة لها بأي قيم ولا أي منهج رفيع.. وكلها تبدو شخصية.. وتنم عن أحقاد ذاتية.. وتتجاوز حدود المصالح.. إلي ما يقترب من حالة "كيد النسا" و"فرش الملاية".. وأخلاق سيئات السمعة.. تلك التي تأتي بما فيها فيك.. دون حتي أن تتكلف عناء أن تلهيك.. ناهيك عن الخيانات التي أصبحت لا تختفي ولا تستر.. والأعمال المريبة ضد مصالح الأمة التي يتم بها الفخر علناً. علي سبيل المثال.. دولة صغيرة محدودة القدرة.. لا قيمة حقيقية لها في موازين التقييم الاستراتيجي.. حدث فيها انتقال للحكم عن طريق انقلاب الابن علي أبيه.. لم يراع حتي صلة الدم.. تجدها تشن حملة سياسية منتظمة وممنهجة علي مصر.. بل وقبل يومين تخصص برنامجاً للحديث عما تسميه التوريث.. قدمه مذيع شيعي.. ربيب لإيران.. و"دلدول" لحزب الله.. ومطلوب من أخلاقنا أن تحتمل هذا.. وأن تسكت.. وألا تذكر من يوظفه ويدفع له أجرته بأنه قد انقلب علي أبيه وأطاح به.. أو أن تذكره بأمور أخري. بل إن الأمر وصل إلي حد أن تتطاول صحيفة جزائرية تعاني من الشطط علي الرئيس.. وتدخله في جملة غير مفيدة في إطار التنابز بين وسائل الإعلام حول مباراة مصر والجزائر.. علي الرغم من أننا حاولنا أن نهدئ من روع هذه المعركة الإعلامية وألا ندخلها في سياق يؤدي إلي فجوة بين الشعوب.. فلما استنفدت صحافة الجزائر حديث المنتخبات والمدربين اندارت علي الرئيس.. فهل أخلاقنا تقبل أن نأتي في المقابل بسيرة الرئيس بوتفليقة الذي امتدحناه قبل أسابيع بسبب موقفه المعضد لمصر في معركة الترشيح لليونسكو؟ بلد بحجم مصر.. وقدرتها.. ومؤسساتها.. لديها ما لا يمكن حصره من المعلومات والوثائق.. وتعرف دبة النملة في الإقليم.. ويمكنها كشف أسرار يشيب لها الولدان.. إلي متي يمكن أن تسكت علي كل هذا.. وكيف لا يمكن أن تلوح بما في يدها من معلومات.. وما تحت يدها من خفايا؟.. وهل تقبل إلي أطول فترة ممكنة الركون لحالة التعالي علي هذا التدني.. وهي يمكن أن تغرق المنطقة بما تعرف من كوارث تخرج العشرات من التاريخ؟ والحكاية لا تقتصر علي هذه الحملات الشتامة المتنوعة والمستمرة.. ولكنها تمتد إلي منظومة انحطاط سياسي تنتهجها مجموعة من الدول.. التي تطلب في الخفاء ما لا تقوله في العلن.. وهي تعرف أن مصر ملتزمة.. وتراعي المعايير القومية.. ولن تفصح عما في جعبتها.. لأن القاهرة ملتزمة بمجموعة المصالح العربية.. ولا تريد أن تقطع الخيوط مع الشعوب.. لكن هذه المنظومة ومن يحركونها إنما تستمرئ.. وتنتهز قيم مصر.. وتعتقد أن الصبر ليست له حدود.. وأنه لابد من اتقاء شر الحليم إذا غضب.. ونحن نطالب الحليم بألا يواصل الصبر. جسورنا يجب أن تبقي ممدودة مع الأشقاء.. لكن الأشقاء يقدمون لنا كفوف التدني التي تلطم الكبير ولا تصافحه.. تعاوننا يجب أن يبقي موصولاً مع الإخوة.. ولكن الإخوة يقابلون العمل الطيب بالعمل الرديء.. نحن لا ننسي التاريخ.. ولكن جيراننا ينسونه.. ويغفلون عنه.. وأصبحوا مرضي بفقدان الذاكرة.. حتي لو كان هذا التاريخ حديثاً جداً. والمشكلة أن حالة الانحطاط الإقليمي لم تعد فقط اقليمية.. والتطاول أيضا أصبح سمة محلية.. وانعكس الخارج علي الداخل.. وأصبحت قلة الأدب هي وسيلة الاختلاف.. والاهتراء والتهتك هو أسلوب المعارضة.. والإهانات هي وسيلة تحقيق التواجد.. فهل تبقي الدولة مثالية وأخلاقية في محيط قليل الأدب ولا يعرف الأخلاق؟ وداخل عامر بنماذج تبيع نفسها سراً وعلناً؟ نكمل غداً.. [email protected] www.abkamal.net