بعيداً عن مشاعر الحقد التي يكنها كثيرون لتونس، وهو حقد علي النجاح والناجحين في آن، لم يكن تصويت المواطنين التونسيين بكثافة للرئيس زين العابدين بن علي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة يوم الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، سوي تعبير عن تمسكهم بمشروع معين يقوم علي التنمية المستمرة والاستقرار بعيداً عن الشعارات الفارغة التي لم تبن بلدًا ولم تطعم شعباً ولم تحم نظاماً أو بلداً في المدي الطويل. في النهاية امتلك الرئيس التونسي الذي تولي السلطة في العام 1987 من القرن الماضي ما يكفي من الشجاعة لقول الحقيقة، كما هي من دون مواربة، للتونسيين بعيداً عن أي نوع من أنواع التملق للشارع. اكتشف التونسيون في ضوء التجارب التي مروا بها منذ الاستقلال أن لا خيار أمامهم سوي التمسك بمشروع بن علي الذي يشكل تطويراً لسياسة ثابتة تقوم علي الاستثمار في الإنسان، في المرأة والرجل في آن، بعيداً عن أي نوع من العقد وصوتوا خصوصاً ضد التطرف معترفين بأن بن علي عرف كيف التعاطي مع هذه الظاهرة باكراً قاطعاً الطريق علي التحايل والمتحايلين. هناك في العالم العربي عدد قليل من الزعماء يرفضون الانقياد للشارع والسقوط في لعبة المزايدات التي يمكن أن ترتد عاجلاً أم آجلاً علي من يمارسها. هؤلاء الزعماء لا يتنكرون للماضي وينقلبون عليه، بل يأخذون أفضل ما فيه. لذلك كانت تجربة تونس ناجحة إلي حد كبير من منطلق أن زين العابدين بن علي لم يجد أن عليه أن يرفض ما تحقق في عهد الحبيب بورقيبة كي يثبت أن لديه ما يقدمه للتونسيين ولتونس، علي العكس من ذلك، استطاع الرئيس التونسي إثر "التحول" الذي حصل في السابع من نوفمبر 1987 انقاذ التجربة البورقيبية من حال الترهل التي تعرضت لها إثر تقدم الرئيس الراحل في العمر، وعمل في الوقت ذاته علي تطوير التجربة مع التركيز علي الجوانب المشرقة فيها، خصوصاً الجانب المتعلق بحقوق المرأة والانفتاح علي العالم من دون تقديم أي تنازلات تتعلق بالهوية العربية والإسلامية لتونس بعيداً عن أي نوع من التطرف أو التشنج في أي مجال كان باختصار شديد، أنقذ "تحول" لعام 1987 تونس وحال دون سقوطها في متاهات التطرف والانغلاق علي الذات التي كانت تسعي إليها بقوة أحزاب معينة تدعي أنها إسلامية ولا تخدم في واقع الحال سوي جهات خارجية تتربص بتونس وتريد لها الخراب. لم يفت التونسيون أن التجربة التي مر بها بلدهم منذ العام 1987 اتاحت لهم العيش في ظل نظام مستقر يعرف تماماً ما الذي يريده وإلي أين يريد أن يصل ليس سراً أن النظام في تونس يعمل من أجل نقل البلد إلي مكان آخر، من دولة نامية إلي دولة متقدمة، من يظن هذا الأمر مستحيلاً يمكن احالته علي لغة الأرقام، تقول لغة الأرقام إن دخل الفرد في تونس كان في العام 1986 نحو 960 ديناراً، ما هو أقل تسعمائة دولار أمريكي، فإذا به في السنة 2008 نحو أربعة آلاف وثمانمائة دينار، ما يوازي أربعة آلاف دولار، أو ليس ذلك إنجازاً في حد ذاته في بلد لا يملك الكثير من الثروات الطبيعية؟ ما سر التقدم الذي حققته تونس في مجال التنمية ولماذا لم تسقط كغيرها، كالجزائر مثلاً التي تمتلك ثروات كبيرة، ضحية التطرف الديني؟ الجواب ذو شقين. الشق الأول أن تونس تعاطت باكراً بحزم مع التطرف الديني تبين بكل وضوح أن التطرف الديني، الذي يلبس في أحيان كثيرة لبوساً مرتبطة إلي حد كبير بالاعتدال ويحاول استغلال الديمقراطية بأغراض لا علاقة لها بتداول السلطة أو بالأسس التي تقوم عليها أي ديمقراطية، ليس سوي نسخة مقنعة عن الحركات الإرهابية من نوع "القاعدة" أما الجانب الآخر الذي سمح لتونس بمواجهة التطرف، فيتمثل في الاستثمار في التعليم وتطوير البرامج التربوية. البرامج التعليمية العصرية تلعب الدور الأساسي في القضاء علي التطرف وتشكيل حاجز اجتماعي في وجهه، سجلت نفقات الدولة في مجال التعليم العالي والتربية في الفترة بين العامين 1986 و2008 زيادة نسبتها عشرة في المائة سنوياً. هذه النسبة هي الأعلي في العالم. والتعليم في تونس، فضلاً عن كونه مجانياً في كل درجاته، الزامياً بالنسبة إلي كل الأطفال من سن السادسة إلي سن السادسة عشرة. صوت التونسيين لمصلحة مشروع متكامل لا أكثر ولا أقل السؤال الآن كيف يكون تطوير التجربة حتي لا تراوح مكانها وكيف يمكن تطوير المشروع نفسه. كان لافتاً أن المنافسة علي موقع الرئاسة كانت بين أربعة مرشحين. كانت صور الأربعة في كل زاوية من تونس العاصمة والمدن الكبري، ولكن بدا واضحاً أن التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يضم ثلاثة ملايين عضو، هو الحزب الحاكم، يمتلك آلة تنظيمية ضخمة علي كل المستويات اتاحت له تقديم مرشحين للانتخابات التشريعية التي جرت في موازاة الانتخابات الرئاسية، في كل الدوائر. بدا واضحاً أن بعض الأحزاب المعارضة ستكون قادرة علي تطوير نفسها مستقبلاً، خصوصاً الأحزاب التي لا تتلقي دعماً من الخارج وهو أمر مرفوض بشدة من التونسيين أنفسهم قبل أن يكون مرفوضاً من الدولة، ومؤسساتها. هناك شيء اسمه الوطنية التونسية يشعر به الزائر إينما حل في البلد. تونس إلي أين؟ لا شك أن ما تحقق علي الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وعلي صعيد الاستقرار السياسي والأمني يمثل إنجازات ضخمة ولاشك أن المشروع التونسي القائم علي إيجاد طبقة متوسطة كبيرة حقق نجاحاً.. معظم التونسيين ينتمون إلي الطبقة المتوسطة ومعظمهم يمتلكون منازلهم، كيف تطوير التجربة سياسياً والانتقال بها إلي آفاق التعددية السياسية في دولة ذات مؤسسات متينة؟ ربما كان ذلك السؤال الكبير. الانتخابات الأخيرة خطوة أولي في اتجاه التعددية وتثبيتها. في النهاية، علي التونسيين وعلي تونس العيش علي الضفة الأخري من المتوسط. إنها الضفة المقابلة لأوروبا. صحيح أن في استطاعتها المحافظة علي خصوصية معينة لتجربتها، لكن الصحيح أيضاً أنها لا تستطيع الانتقال إلي مصاف الدول المتقدمة من دون التطوير المستمر للتجربة والمشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي انحاز التونسيون له في الانتخابات الأخيرة. انحازوا أولا للتقدم وكل ما هو حضاري في هذا العالم: انحازوا بكل بساطة لثقافة الحياة وهي الثقافة الوحيدة التي تستأهل الانحياز لها.