دعيت - منذ يومين - للحديث في ورشة عمل حول دور علماء الدين في مساندة مشروع الحق في التسجيل، وهو مشروع مهم تتبناه وزارة الأسرة والسكان، وتقوم بتنفيذه بالتعاون مع عدة وزارات أهمها الداخلية والصحة. الهدف منه هو معاونة الأسر، خاصة الفقيرة، في الحصول علي الأوراق الرسمية الثبوتية مثل شهادة الميلاد، ساقط القيد، بطاقة الرقم القومي، ويعمل المشروع في عدد من المحافظات من الجيزة إلي قنا مرورا بحلوان و6 أكتوبر وبني سويف والمنيا وسوهاج. المشاركون في ورشة العمل كانوا من الدعاة الذين يعملون في وزارة الأوقاف، وعدد مساو لهم من القساوسة في الكنيسة القبطية، جاءوا جميعا من المحافظات التي يعمل بها المشروع. المشروع مهم، ونتائجه علي أرض الواقع مبشرة، وقد بدأت محافظات أخري تطالب بتطبيقه، وهو ما حدث بالفعل، لا أود الحديث طويلا عن المشروع، فقد تناولته في مقالات سابقة، ما أريد التوقف أمامه الآن هو المشاركون، خصائصهم، انطباعاتهم، تفاعلهم. في ذهني عندما ذهبت إلي ورشة العمل أن التحفظ سوف يغلب علي المشاركين، نظرا لأنهم قادمون من محافظات الصعيد التي أصبحت أحداث التوتر الطائفي ملمحا أساسيا بها، وآخرها ما حدث في ديروط منذ أيام، لم أجد للتحفظ أثرا في القاعة، الأحاديث الجانبية قائمة. عبارات الود والمداعبة مستمرة طوال المناقشات، وهناك دائما اتفاق حول القضايا المطروحة، وهي في مجملها تتعلق بالفقر، والتهميش، والرغبة في إتاحة فرصة أمام المواطنين للاندماج في مجتمعهم إنسانيا، واقتصاديا، واجتماعيا. ما لفت انتباهي هو عبارة قالها لي أحد الدعاة المشاركين لماذا لا تكون هذه اللقاءات باستمرار؟ أصاب الرجل جوهر القضية، جانب كبير من حالة التوتر الطائفي التي تدق أبواب القري المصرية بقسوة في السنوات الأخيرة مبعثها غياب التفاعل بين المواطنين في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي القضايا التي سوف يتناولها الناس بجدية، ودأب، ويتفقون فيها علي الملامح الأساسية لها نظرا لأن مصالحهم مشتركة. إذا غاب هذا التفاعل، فإن البديل هو التقوقع، العزلة، الارتياب، ثم تبادل الاتهامات، وأخيرا الضلوع المباشر في العنف. تحدثنا، وتحدث كثيرون، عن العنف الطائفي، ملامحه ومسبباته، وكيفية التصدي له، ولكن مازلنا ندور في الحلقة المفرغة، وأخشي أن يكون منحي الأحداث الطائفية في الصعود خاصة بعد أن تحولت المشكلات الاجتماعية إلي قضايا طائفية الحب بين شاب وشابة مختلفين في الديانة تطور لكي يكون قضية طائفية، والخلاف علي بيع وشراء تحول إلي سبب للنزاع الطائفي، حتي مشاجرات الأطفال في الشارع أثناء لعبهم تحولت إلي بواعث للتوتر الطائفي، ما الحكاية؟ هناك فائض عنف، يقابله فائض فراغ، يلازمه قلق كياني من المستقبل الغامض، كل ذلك ينتج خلطة نفسية مضطربة، تغذيها الفضائيات، ومساجلات الصحف حول المذاهب والأديان، وينفخ فيها وكلاء الطائفية مما يؤدي إلي أحداث تزهق فيها أرواح، وتخرب فيها ممتلكات، وتترك وراءها جراحا نفسية تحتاج حتي تندمل إلي سنوات. لم أعد أفهم ما تقوم به بعض وسائل الإعلام في الوقت الحاضر في مسألة العلاقات الإسلامية المسيحية فقد تحول الأمر إلي حالة عراك مستمرة، طوائف مسيحية في مواجهة بعضها بعضا، وفرق إسلامية تكفر بعضها بعضا، وتحذيرات مستمرة علي الجانبين، هل هذه القضايا تستحق اهتمام الصحافة؟ وأين القضايا الأخري المنسية؟ المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضي هو عودة رأس المال الاجتماعي، أي علاقات الثقة بين المواطنين من خلال تكثيف تعاون الكل، بصرف النظر عن الاختلاف في الدين، في حل القضايا الاقتصادية، الاجتماعية، من فوضي، بطالة، فقر، تهميش، وتراكم قمامة، وتلوث، ألخ. إذا التقي المواطنون، وبخاصة المعنيين بالشأن الديني علي الجانبين، علي خدمة مجتمعهم، وحثوا رواد المساجد والكنائس علي التلاقي علي حل مشكلات مجتمعاتهم المحلية، فإن ذلك سوف يعيد بعضا من الثقة المفتقدة، ويخلق أجواء إيجابية تشكل حاجزا في وجه نداء الطائفية الذي يطنطن في الآذان. مبادرة طيبة من وزارة الأسرة والسكان، ولكن أين المبادرات الشبيهة؟ لماذا لا يشكل كل محافظ لجنة من رجال الدين علي الجانبين، وشخصيات مدنية، وقيادات مجتمعية للعمل علي اتخاذ مبادرات اجتماعية لحل مشكلات المجتمع المحلي؟ القضية ليست فقط في التصدي لمشكلات الواقع، ولكن في إحياء ثقافة التلاقي في مواجهة ثقافة الشحن الطائفي. قد يكون في مدخل التعاون الاجتماعي مجال جديد لمواجهة الهوس الطائفي، فليس من الانصاف ترك الأمن وحده في مواجهة فكر التطرف، وخطاب الطائفية، والعنف المتلبس بالدين، القضية معقدة، والحل يكمن في الخروج من ثقافة العزلة، إلي حالة جديدة من التمكين الإنساني يتشارك فيها الجميع.