"نحتفي بالشعر لأننا نحتفي بالإبداع، ونحتفي بالإبداع لأننا نحتفي بالحياة"، هكذا يقدم د. جابر عصفور أحدث كتبه "في محبة الشعر" الصادر لدي الدار المصرية اللبنانية، الذي لا يخلو - كما هي عادة الناقد القدير - من مشاغبات ومفاجآت من عيار "شعر الصراصير" في إشارة إلي قصيدة النثر الركيكة! كما يبدو من العنوان، أن عصفور يصالح الغاضبين والثائرين علي مقولته الشهيرة "زمن الرواية"، إلا أنه في حقيقة الأمر ما هو - الكتاب - إلا إعادة تذكير بدور الناقد والأستاذ الكبير في تتبع الشعر والتقديم له علي مدي السنوات، والدليل علي ذلك أنه عبارة عن مقالات منشورة من قبل. يقول د. جابر فيما يشبه التبرأ أو الرجوع عن مقولته المشهورة "زمن الرواية": "قبل أن نسمع عن الكتابة عبر النوعية وتداخل الأنواع، أخذنا نسمع منذ سنوات عن زمن الرواية التي سرقت من الشعر شعريته"، ويدافع عن الشعر وخفوت صوته في عصر المعلومات بسؤال: ماذا يمكن أن يفعله الشعر في عالم لم يعد فيه موضع للمطلقات أو السرديات الكبري؟ أما في تعريف الناشر للكتاب فيقول: "يحاول د. جابر عصفور إعادة التوازن إلي السياق الثقافي، الذي اتهمه البعض بأنه عطّله بمقولته "زمن الرواية" التي ركب موجتها كثيرون"، لكن كما يقول د. عصفور نفسه في ختام مقدمته "لكل جيل حريته الكاملة في المساءلة والمغامرة والتجريب، ماظل علي اللهب المقدس للشعر". علي لسان صديق - قد يكون مخترَع - للدكتور جابر وبأسلوب حواري ساخر، يتحدث رئيس المركز القومي للترجمة مواربة عن أصحاب "شعر الصراصير"، وهم أصحاب الشعر الزائف، الذين حوّلوا قصيدة النثر إلي "أفعال استهزاء فاضح باللغة والعقل والمعني والقيمة"، يكتب عصفور: "هذا ما انتهي إليه الشعر علي أيدي من يصرون علي الانتساب إليه دون موهبة أو رؤية أو معرفة أو تجربة"، وفي موضع آخر: "القيمة انعدمت كثيرا في شعر المبتدئين من الشباب، ففقد الشعر في كتاباتهم اسمه ومعناه وغاياته"، مشيرا إلي أن قصائدهم أصبحت عبارة عن كلام رطيط، وسيطرت عليها حالة من السادية والمازوخية. ويستعين، علي لسان الصديق أيضا، بقصيدة هدي حسين تقول فيها: شيء عظيم سيحدث وعلي أن ابقي كي استوعبه كأن تعلو كومة الروث في مرحاضنا الأبيض الملائكي ومع ذلك يدافع صاحب "الدولة المدنية" عن ذلك النوع من الشعر، لكن بمنطلق أن اقتصار الشعر علي الموضوعات الجميلة الصافية وحدها "وهم"، وأنه وفقا للعقاد في مقدمة ديوانه "عابر سبيل" فإن موضوعات الشعر موجودة في كل مكان، حتي علي أرفف محلات البقالة في يوم العطلة! وهو ما جعل كثيرون يسخرون منه ووصفوه بالشاعر "المراحيضي"، لأنه وصف طفلا في إحدي قصائده بأن "مرحاضه أفخر من أثوابنا"، فالمهم لدي عصفور هو الطريقة أو القيمة الجمالية التي تعالج من خلالها الموضوعات، حتي ولو كانت قبيحة، وليس الموضوع في حد ذاته. في بداية الكتاب يعرض د. جابر للتصور الرومانتيكي عن الشعر والشعراء، باعتبار الشاعر نبي "أفكاره هي بذور أزهار الزمن الحاضر وثماره اللاحقة في آن واحد"، لكن عصفور يؤكد أن العلم قضي علي وظيفة الشاعر العرّاف أو المتألّه أو المتنبيء، كما اختفت كذلك وظيفة الشاعر البطل المنقذ، وأصبح إذن نموذج الشاعر الجديد هو الذي يسير مختالا ضاحكا لا يزعم لنفسه دور الشاعر الخالق ولا حتي شاعر القبيلة، وإنما دور الإنسان البسيط المراقب لما يحدث حوله، مادام ظل محافظا علي "النار المقدسة للشعر التي ورثها عن أسلافه"، وأخذ ينفخ فيها من روحه الخاص. عبر ثلاثة فصول وعناوين فرعية كثيرة، يكتب جابر عصفور عن أحمد شوقي في فصل عن رموز زمن البعث والإحياء في الشعر العربي، ومعه البارودي، لكنه يقف كثيرا وطويلا عند شوقي، ممتدحا موضوعات شعره، والبعد الإنساني فيها، ثم ينتقل في فصل خاص إلي زمن الستينيات، مع قصائد عن الزعيم جمال عبد الناصر، وما نظمه في هذا المجال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، ويعرج إلي صلاح جاهين، الذي يعتبره امتدادًا لشعر المقاومة بالعامية، يقول عنه: "ظل صلاح جاهين شاعرا بالدرجة الأولي، عمره كله يسعي وراء الشعر". ومن بدر شاكر السياب إلي محمد عفيفي مطر، ومن أمل دنقل "المتمرد الأبدي" إلي ممدوح عدواني، تتابع أكثر من ثلاثين مقالة، يتحدث د.عصفور عن فترة ما بعد الستينيات الشعرية، مع محمود درويش، وحلمي سالم وغيرهما. أما عن قصيدة النثر، "ذلك الهجين الذي لا يزال يثير الجدل"، يذكّر د.جابر بأنها اختراع فرنسي، ثم سار الشعراء العرب المتأثرون بالثقافة الفرنسية علي نهج تلك القصيدة، ولعبت مجلة "شعر" الدور الأكبر في الترويج لها، ويربط جابر بين الأحداث السياسية والأوضاع بعد الحرب العالمية الثانية وحرب 7691، وبين تزايد الاحتشاد نحو التمرد ومن ثم نحو قصيدة النثر. يري د. جابر أن قصيدة النثر أثبتت حضورا قويا برغم عنف المقاومة التي تواجهها، وهي تطور طبيعي لحركات التجديد لدي كبار الشعراء مثل أدونيس وأنسي الحاج والماغوط الذين عرفوا هذه القصيدة عبر أعلامها الكبار في الثقافة الفرنسية أمثال شارل بودلير صاحب "أزهار الشر"، وغيرهم من الأجيال الأحدث، الذين يؤكد د. عصفور أن بعضهم ركب الموجة تحت وهم الاستسهال.