بلغ مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي سن الرشد، فها هو يبلغ عامه الواحد والعشرين وتضيء فعالياته هذه الأيام ليالي القاهرة بعروض من مختلف أنحاء العالم جاء أصحابها بأحلامهم ورؤاهم رغبة في التواصل والحوار بين ثقافات متعددة ومختلفة. كان المهرجان قبل عشرين عاماً مجرد فكرة لامعة في ذهن الفنان فاروق حسني وزير الثقافة وعهد بالفكرة إلي الدكتور فوزي الذي أبدع في رعايتها واستطاع ببراعة أن يقود آليات تنفيذها وأن يجعل لها مؤسسة منضبطة تعمل بتناغم ودقة علي مدار العام. وتتصاعد في السنوات الأخيرة آراء مختلفة بين المسرحيين حول تقييم المهرجان فمثلما بالغ البعض في مدحه والدفاع عنه باعتبار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان راح البعض الآخر يهاجمه بعنف وضراوة ويحمله مسئولية كل الظواهر السلبية في حياتنا المسرحية.. وبين هذين الطرفين وقف فريق يدعو بهدوء وعقل إلي التقييم الموضوعي دون مبالغة باعتباره تظاهرة ثقافية وفنية مهمة تستحق الاستمرار.. قبل عشرين عاماً كنت مخرجاً شاباً صغيراً في مسرح الطليعة يبحث عن فرصة للتحقق ويتلمس طريقه بحذر محاولاً امتلاك مشروع مسرحي له ملامحه ومقوماته وبسبب الإعلان عن الدورة الأولي للمهرجان التجريبي عام 1988 ، تحول مسرح الطليعة بقيادة الفنان سمير العصفوري إلي خلية نحل للتعامل مع الوافد الجديد.. الكل يفكر.. الكل يتحاور.. الكل يبحث عن وجود للمسرح المصري داخل هذا المهرجان الذي سيدفع بنا، فجأة، إلي قلب المشهد المسرحي الدولي. بسبب المهرجان أصبحنا كمسرحيين شباباً مدعوين للمشاركة في وضع ملامح المشاركة المصرية داخله، بعد أن كنا نقف علي عتبات المواسم المسرحية نتابع ونشاهد فقط ونتحين الفرصة للدخول إلي الحياة المسرحية، وقتها كنا علي يقين أن المسافة بيننا وبين تحقيق رؤانا وطموحاتنا المسرحية بعيدة جدًا.. وعبر العشرين دورة اتسعت دائرة الحلم لمسرحيين من مختلف الهيئات والجهات ولم يقتصر علي مسارح الدولة فقط، فتألق فنانو الثقافة الجماهيرية والفرق الحرة والمستقلة وطلبة الجامعات والمعاهد وغيرهم. قبل عشرين عامًا كانت أغلب عروض المسرح المصري، أقول أغلب، لا تعرف تألقًا في التشكيل والسينوغرافيا، وكانت حافلة باللحظات المجانية وغياب الدلالات مكتفية بأن يكون العرض حاملاً لخطاب سياسي أو اجتماعي مهم دون الالتفات للتقنيات. وتوظيف الأدوات والوسائط الجمالية المختلفة وكان تألق الممثل يكمن في تحكمه في نبرات صوته وقدرته علي التراوح بين الجهر والهمس دون النظر إلي أدواته الأخري الأهم. المهرجان التجريبي ساهم في تغيير الصورة المسرحية.. فأنا كمتابع للفترة التي سبقت ظهوره ولدوراته الممتدة ألمس تطورًا في منهج الأداء التمثيلي وفي الرؤي السينوغرافية والتشكيلية وفي توظيف تقنيات العرض المسرحي بل في الموضوعات المطروحة، حيث ذهبت عروض كثيرة إلي البحث عما يمكن أن يميزنا في غياب التجهيزات التقنية العالية التي تفتقر إليها خشبات مسارحنا، وبرزت الخصوصية المصرية وتخلقت مساحات جديدة علي المسرح المصري باستلهام ثقافات أطراف مصر في أقصي الصعيد والنوبة والصحراء لتشكل أرضًا بكرًا للتجريب المسرحي.. كما سعي آخرون للتجريب علي المادة الكلاسيكية ومحاولة إعادة قراءة الكلاسيكيات بمفهوم حداثي. أما التباكي علي النص المسرحي والمؤلف المسرحي الذي راح ضحية المهرجان التجريبي، فهو ظلم للمهرجان وأمر يدعو للدهشة فمقولة أن المخرج هو مؤلف العرض المسرحي مقولة قديمة سبقت ظهور المهرجان التجريبي بعشرات السنوات، فهي مقولة مطروحة في أوروبا منذ بدايات ستينيات القرن الماضي، فالكلمة المنطوقة علي أهميتها، ليست هي الوعاء الوحيد القادر علي حمل الرسالة المطلوب توصيلها إلي المُرسَل إليه بل إن الدلالات والعلامات وتشكيل الفراغ المسرحي تحمل خطابًا فكريًا وجماليًا مثلما تحمل الكلمة. أنا مع تطوير المهرجان عبر الحوار الموضوعي اللائق بكيان شب عن الطوق وبلغ سن الرشد. ويا أيها المسرحيون حافظوا علي هذا المهرجان الذي غير المشهد المسرحي ودفعه إلي أفق أفضل، لتبقي القاهرة حاضنة لهذه التظاهرة الثقافية والفنية المهمة.