لم يكن صمود النظام في الصين من باب الصدفة. استطاعت بيجينج الاحتفال قبل أيام بذكري مرور ستين عاما علي إعلان قيام "جمهورية الصين الشعبية" لأن النظام عرف باكرا كيف يصلح نفسه من داخل وكيف يتكيف مع التطورات التي يشهدها العالم. وعرف خصوصا أن لا مستقبل له من دون قاعدة اقتصادية قوية ومتينة بعيدا عن النظريات الخرقاء من نوع أن "الإمبريالية نمر من ورق". تبين مع مرور الوقت أن الإمبريالية نمر حقيقي وأن ثمة مجالا لوجود نمور أخري في هذا العالم. حالت القاعدة الاقتصادية القوية، مع عوامل أخري، من بينها الحس الوطني التي يجمع بين الصينيين الذين تنتمي نسبة تسعين في المائة منهم إلي قومية الهان، دون أن يكون مصير الصين شبيها بمصير الاتحاد السوفياتي الذي ما لبث أن انهار مطلع العام 1992 ولم يمض بعد ثلاث سنوات علي سقوط جدار برلين. كم تبدو الصين الحالية مختلفة عن صين مؤسس الجمهورية ماو زي تونج الذي غادر العالم في العام 1976 . صار "الكتاب الأحمر" الذي وضعه ماو جزءا من التاريخ. صارت تعاليمه بالية وحزبه الشيوعي من دون ايديولوجية. تخلي الحزب عن ايديولوجيته ليحافظ علي السلطة. ما أنقذ النظام في الصين والصين نفسها التخلي باكرا عن الايديولوجيات. حصل ذلك مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. انتقلت الصين إلي عهد جديد أسس له دينج هسياو بينج الذي يمكن وصفه بباني الصين الحديثة. اعتمد دينج مبدأ البحث عن الحقيقة انطلاقا من الواقع. يقول أحد الذين عملوا معه عن كثب أن الرجل لم يكن معجبا علي الإطلاق بماو، خصوصا بثورته الثقافية، التي افقرت البلد وأدت إلي مقتل مئات الآلاف وزج الآلاف في السجون من دون سبب يذكر... باستثناء رغبة الطلاب الذين حملوا "الكتاب الأحمر" في نشر حال من الرعب في المدن وتطبيق الشعارات التي تضمنها الكتاب. كانت معظم هذه الشعارات من النوع الساذج غير القابل للتطبيق في أي بلد من البلدان. استند دينج، الذي توفي في العام 1997 في جهده الهادف إلي بناء الصين الحديثة إلي سلسلة من النظريات البراغماتية أدت إلي احتفال بيجينغ بالذكري الستين لقيام الجمهورية وهي تشعر بأنها بالفعل قوة عظمي. صارت الصين قادرة علي أن تجد لها مكانا علي الخريطة الدولية ومنافسة الولاياتالمتحدة عن جدارة في ميادين كثيرة. من بين هذه النظريات الاقتناع بأن لا مجال لتطبيق النموذج السوفياتي في بلد في طور النمو مثلما يستحيل الاستعانة بالنموذج الأمريكي واعتماد الديمقراطية الغربية قبل إقامة قاعدة اقتصادية متينة. كان علي الصين البحث عن طريق خاص بها لتحقيق التطور. لم يكن لدي دينج شعار أو نهج محدد يتمسك به. دعا بكل بساطة إلي تحديث الصين عن طريق تجارب مختلفة ومتنوعة والعودة عن أي تجربة متي تبين أنها خاطئة. ركز علي محاربة الفقر خصوصا استطاع في غضون سنوات قليلة إخراج نحو أربعمائة مليون صيني من حال الفقر. لم يحصل ذلك في تاريخ البشرية. تخلت الصين عن عقدة نقل تجارب الآخرين وحتي تقليدهم، خصوصا تجارب الدول الناجحة سواء كانت صغيرة أم كبيرة. رفعت من مستوي التعليم كي يتمكن طلابها من مواكبة الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم. واستمرت في سياسة الحد من النمو السكاني التي ساعدت في القضاء علي الفقر والتخلف، بل لعبت دورا محوريا في ذلك. ولذلك، لم تجد الصين صعوبة في التحول إلي مصدر للتكنولوجيا الحديثة، بل منتج لها، بعدما كانت تكتفي في الماضي بسرقة ما لدي الغرب من انتاج حديث وصنع نماذج سيئة من هذا الانتاج من دون السعي إلي اكتساب المعرفة الحقيقية التي لا تؤمنها سوي البرامج التعليمية المتطورة والحديثة. ولكن يبقي أن الأهم من ذلك كله، أن الصين تخلت عن ايديولوجية تصدير الثورة. صار الوجود الصيني في العالم مرتكزا علي المصلحة الصينية. علي سبيل المثال وليس الحصر، إن الصين مهتمة بالمحافظة علي النظام في السودان وحمايته من منطلق اهتمامها بالنفط السوداني. لا يهم الصين ما يحصل في دارفور وما إذا كان هناك خرق لحقوق الإنسان أو ما شابه ذلك بمقدار ما أن همها محصور بتأمين موارد الطاقة. الصين باقتصادها الضخم عطشي إلي الطاقة وما ينطبق، بالنسبة إليها علي السودان، ينطبق إلي حد كبير علي إيران. لم تعد الصين مهتمة بحركات التحرر. ما يهم الصين هو الصين. الصين أولا. أنه الشعار الذي رفعه دينج وكل من تولي السلطة بعده. اكتشفت صين ما بعد ماو أن عليها الانصراف إلي مشاكلها الداخلية ومعالجتها بطريقة علمية وبراغماتية في آن. اكتشفت خصوصا أن الإمبريالية شيء آخر مختلف. إنها قوة حقيقية سياسيا واقتصاديا ومصدر للتكنولوجيا المتطورة. كل ما في الأمر أنه كان علي الصين أن تخترع تجربة خاصة بها تقوم علي فكرة أن وجود الحكم الصالح أهم بكثير من وجود الديمقراطية. في يوم من الأيام، لن يكون هناك مفر أمام الصين سوي أن تكون دولة ديموقراطية. عاجلا أم آجلا سيتبين أن الحزب الشيوعي لا يمكن أن يكون الحزب الوحيد في البلد وأن لا بد من تعددية حزبية. صحيح أن أمام الصين طريق طويل قبل الوصول إلي مرحلة الديمقراطية علي الطريقة الغربية. ولكن من كان يصدق أن الصين في العام 2009 سوق كبيرة منفتحة إلي العالم وأن الأحياء الراقية في بيجينج وشنغهاي وغيرهما من المدن فيها كل الماركات العالمية الحديثة تماما كما لو أن المرء في باريس أو نيويورك أو لندن... أو بيروت. استفادت الصين من تجربة هونج كونج بدل لعن النجاح والناجحين. اعتمدت الانفتاح المتدرج علي العالم المتحضر. أدركت باكرا أن القاعدة الاقتصادية المتينة والاهتمام بالشئون الداخلية للبلد ضمانتان لاستمرار النظام ويفتحان الأبواب الواسعة أمام تطويره بدل تصدير الأزمات الداخلية إلي الخارج كما يفعل بعض العرب وغير العرب، من الذين يدّعون تقليد الصين، للأسف الشديد!