عندما يمر بنا العمر ونلتفت إلي سنواته العابرة نجد أن عجلات الزمن لم تبق علي كثير من الذكريات في تاريخنا فبعضها طفولي وبعضها فضولي والباقي تعمدنا إسقاطه من الذاكرة ولكن هناك سنوات لا تنقضي بمرور أحداثها وإنما يبقي أثرها رفيق المستقبل يسجلها التاريخ بدماء أصحابها.. فبكم تقدر اثنا عشر عامًا اقتطعتها الحرب من عمر شاب جاب الصحراء حاملاً عمره علي كفيه وكأنه يهديه للموت في أي لحظة؟! الآن وقد دق الهرم بابه وتجاوز عمره السبعين عامًا يروي الحاج أحمد محمد الحوار رحلته مع ثلاث حروب مرت بمصر فيقول: أنا من قرية نبتيت مركز مشتول السوق بمحافظة الشرقية تم تجنيدي بالقوات المسلحة بتاريخ 1964/6/15 رحلت مع الجيش من التل الكبير إلي الجمهورية العربية اليمنية، ثم عدنا بعدها إلي صحراء سيناء شرم الشيخ وفوجئنا وقتها بالهجوم الجوي للطائرات الإسرائيلية في 5 يونيو 1967 وصدرت لنا الأوامر بالانتقال إلي الإسماعيلية وقناة السويس للدفاع عنها علي طول خط المواجهة وعندما بدأت حرب الاستنزاف انضممت لقوات المقاومة الشعبية بأمر عسكري وتنقلنا لحماية المنشآت من مصنع الحديد والصلب في حلوان ومبني الإذاعة في المقطم ومحطة الكهرباء في سمالوط وتم تسريحي في 1972/7/1 وعينت عاملاً بوزارة التربية والتعليم واستلمت عملي في 1973/9/27 بإدارة مشتول السوق التعليمية! يضيف الحاج أحمد أنه تم استدعاؤه مرة أخري للقوات المسلحة في 1972/7/27 وتم إعادة تشكيلهم مرة ثانية وتوزيعهم علي الوحدات وكان نصيبه المدرعات بسلاح المهندسين وسافر معها إلي الجبهة في أبوخليفة.. وفي نفس يوم السفر واستلام المعدات والمهام انتقلنا مباشرة للجبهة وكانت المفاجأة.. فإذا بالجنود المرابضين هناك يجلسون علي الضفة يمصون القصب ويلعبون الكرة.. بالطبع اتقدت مشاعرنا آنذاك بالغضب ورددنا أننا لم نأت لهذا المكان لنمارس رياضتنا المفضلة أو الجلوس علي شط القناة نمص القصب فترعة بلدنا أولي! دار هذا الحوار يوم 4 أكتوبر وفي يوم 6 أكتوبر صدرت لنا أوامر العبور وقبل أن ندرك حقيقة الأمر كانت الطائرات المصرية تشق سماء سيناء ونحن نلاحقها بصيحات التهليل والتكبير.. وفي دقائق كان كل منا في موقعه.. لا أذكر كيف وصلت أنا وزميلي الشهيد العريف محمدي للضفة الشرقية ولكننا كنا مع أول من وصلوا إلي الساتر الرملي علي خط بارليف وما أن وصلنا إلي هناك حتي سجدنا نقبل ثري حقنا المسلوب! كانت مهمتي حينها زراعة الألغام بعد عبور القناة ب130 كم في مدخل الدشمة 48 الإسرائيلية وتطهيرها من أي عناصر إسرائيلية وبالفعل دخلت أنا والضابط كمال والعريف محمدي وأسقطنا 4 جنود إسرائيليين وأسرنا ثلاثة آخرين. الدشمة كانت حصينة.. سقفها من قضبان السكة الحديد وبها عربات القطار وعربات لنقل الزلط كما في المناجم.. وانفجر لغم في العريف محمدي ومرت سيارة حربية إسرائيلية فاضطررنا للانبطاح أرضًا حتي انسحبت وأمرنا رقيب السرية باتجاه الثغرة لزرع الألغام بها وعندما عدنا أنا والضابط كمال لحمل جثة الشهيد محمدي لم نجدها.. بعدها حدث اشتباك بيننا وبين الجنود الإسرائيليين.. فأسقطنا اثنين وأسرنا الثالث. ويتابع الحاج أحمد أثناء القصف الإسرائيلي أصبت بشظايا دانة من مدفع الهاون ونقلني زملائي بعد الاسعافات الأولية علي الجبهة إلي مستشفي الصالحية ثم مستشفي الزقازيق، فالقصر العيني في القاهرة.. وتحددت إصابتي بعجز كلي 80٪ وشلل جزئي بعصب القدم اليمني وتم إخلاء طرفي بالقوات المسلحة في 1975/6/1 وحصلت علي شهادة عبور القنطرة شرق خلال الحرب وتم صرف معاش شهري ومنحي قطعة أرض لزراعتها بقريتي. يختتم الحاج أحمد قصته بقوله إن الحرب خراب بيوت وضياع للشباب الذي يردد شعارات دون أن يعلم ما هي الحرب وأثرها وسنوات العمر التي تمضي دون أن تعود وقيمة المعاهدة التي وقعها الرئيس السادات وفرت حياة مستقرة لهذا الجيل، لكنها في النهاية كانت معاهدة تم توقيعها من موقع المنتصر القوي، القادر علي إملاء شروطه وتحقيق أهدافه.