من خلال سلسلة من المقالات علي مدار أسابيع حرصت علي العودة بالقارئ العربي إلي الوراء والغوص في تاريخ ظاهرة الاستيطان في ضوء ما دار حولها من جدل في الشهور الماضية، خاصة مع تركيز الإدارة الأمريكية عليها كعنصر من عناصر توجهها للتعامل مع قضايا المنطقة ولبدء صفحة جديدة في العلاقات مع العالم العربي والإسلامي دشن لها خطاب الرئيس الديمقراطي في جامعة القاهرة غداة توليه مقاليد الأمور في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومطالباته العلنية المتعاقبة لإسرائيل بوقف كافة الأنشطة الاستيطانية بما في ذلك ما يطلق عليه النمو الطبيعي للمستوطنات، ولعل أهمية الرجوع إلي الوراء في تناول مثل هذا الموضوع الحيوي والحساس تتمثل في أنها تساعد علي فهم طبيعة ما يجري حاليا بخصوصه وفهم أبعاد الموقف الإسرائيلي الذي يبدو متعنتا تارة ومراوغا تارة أخري، وكذلك الموقف الأمريكي الذي يمزج بشكل مثير للدهشة بين الحزم من جانب والليونة من جانب آخر. وفي مجال إبراز الدروس المستفادة من ذكريات الاستيطان قد يكون من المفيد تركيز الضوء علي النقاط التالية: 1 - مثل الاستيطان ظاهرة سبقت قيام دولة إسرائيل، وأداة رئيسية من أدوات تأسيسها حيث جاء العنصر الديموجرافي ليستقر علي الأرض وليضع النواة التي مهدت للإعلان عن ميلاد دولة جديدة عام 1948. 2 - صاحبت ظاهرة الاستيطان الدولة العبرية في كافة مراحل وجودها، خاصة بعد الاستقلال؛ حيث احتلت موقعاً متقدماً في قائمة الأدوات التي وظفتها الحركة الصهيونية العالمية والقيادات الإسرائيلية المتعاقبة لرسم الملامح النهائية لدولة إسرائيل علي أرض الواقع، حتي يحين الوقت المناسب لحمل العالم أجمع، والعرب بشكل خاص، علي الاعتراف بأمر واقع تم فرضه عبر عقود بغض النظر عن كافة القوانين والأعراف الدولية. ففي الوقت الذي تم فيه بناء كتل استيطانية ضخمة في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية، وصل عدد قاطنيها إلي ما يقارب نصف مليون يهودي، تتعاظم قناعة الرأي العام الإسرائيلي بأنه سيكون من الصعب علي الضمير العالمي القبول بتشتيتهم في وقت لم يتخلص فيه بعد من عقدة المحرقة النازية التي عاني خلالها "الشعب المختار" من قبل العناية الإلهية الويلات علي يد "الجنس المختار" الذي حددته القيادة النازية. 3 - أن خطوات التنازل عن بعض المستوطنات قد تم اتخاذها من قبل قيادات يمينية تؤمن بمحورية العملية الاستيطانية وحيويتها بالنسبة للمشروع الصهيوني، وعلي الرغم مما حملته تلك الخطوات من تناقض بين العقيدة من جانب والتصرف الفعلي من جانب آخر، فإنها تعكس في حقيقة الأمر رؤية واضحة قادرة علي تقديم "تنازلات" تكتيكية لتحقيق مصالح استراتيجية أوسع، وهو ما يمكن التدليل عليه من القراءة الدقيقة للمثلين اللذين أقدمت فيهما إسرائيل علي التخلي عن مستوطنات: * بدا الانسحاب الإسرائيلي من مستوطنات شبه جزيرة سيناء، تنفيذاً لاتفاقية السلام مع مصر، علي أنه تراجع كبير عن سياسية الاستيطان، ومع ذلك فإن زعيم تكتل الليكود آنذاك، مناحيم بيجين، الذي مثل تتويجاً للتوجهات اليمينية المتشددة والذي نجح في تمكين الليكود من انتزاع السلطة من أيدي حزب العمل لأول مرة في تاريخ البلاد، رأي ذلك في حينه علي أنه نصر كبير، تمثل فيما تم تقديمه إسرائيلياً علي أنه إخراج مصر، باعتبارها أكبر قوة عربية فاعلة ومؤثرة، من معادلة الصراع المسلح مع إسرائيل، بما يستتبعه ذلك من فتح آفاق جديدة لإطلاق الصراعات العربية-العربية، من خلال تكريس الجهود العربية لقضية عزل مصر بدلا من قضية استعادة الأراضي المحتلة سواء عن طريق القوة أو المفاوضات. وفي غيبة من العمل العربي المشترك والموحد تكون الساحة مفتوحة أمام إسرائيل لتثبيت أقدامها علي أرض الأجداد في "يهودا والسامرة" وتكريس الوضع في القدس لتصبح، شاء العالم أم أبي، العاصمة الأبدية للدولة اليهودية التي كان من المخطط أن يتم المطالبة بها صراحة في التوقيت المناسب إسرائيليا استنادا إلي الحقائق علي الأرض. * مثل الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة وإجلاء المستوطنين اليهود عنه خطوة ضرورية علي طريق تحقيق الإستراتيجية العليا للدولة والمتمثلة في رسم حدودها علي أرض الواقع بما يضمن يهودية الدولة من جانب، ويظهر إسرائيل علي أنها الطرف الوحيد الذي قدم تنازلات في مقابل السلام، وفي هذا السباق فانه لا عجب في أن قرار أرييل شارون، الذي آلت إليه رئاسة الليكود آنذاك، بالإقدام علي هذه الخطوة قد جعل منه، وفقا لتصريحات كبار المسئولين الأمريكيين وما شاع في صفوف قطاعات كبيرة في الرأي العام العالمي، "رجل سلام". فبالتوازي مع الجدار العازل الذي ضم بشكل فعلي الكتل الاستيطانية والقدسالشرقية إلي الدولة اليهودية وابتعد عن المناطق ذات الكثافة السكانية العربية في الضفة الغربية، جاء الانسحاب من قطاع غزة ليرسم الحدود بين إسرائيل اليهودية وغزة المكتظة بالفلسطينيين. 4 - أصبح للاستيطان علي مدي العقود المتتالية ديناميكياته الخاصة وأساليبه المتعددة التي لم تقتصر فقط علي المستوطنات التي تم إنشاؤها بقرارات حكومية، والتي يتم وصفها إسرائيلياً بالشرعية، وإنما تلك الخاصة، التي أقامتها مجموعات وجمعيات يهودية متشددة بمباركة من الجيش، وهو ما دأب الحديث عنه بوصفه "بؤر استيطانية". وفي حين تمثل المجموعة الأولي ترجمة لحدود الدولة، وفقا لمعتقدات قادة البلاد، تعتبر الثانية أداة يمكن استخدامها في التفاوض واقتناع العالم باستعداد الدولة علي تقديم "تنازلات صعبة" في مقابل "التشدد" الفلسطيني، كذلك فإن هذا التنوع يمكن أن يوفر بديلاً مناسباً لأية توجه أمريكي يصطدم بالمطالب الإسرائيلية فيما يخص ملف الاستيطان. 5 - استثنت إستراتيجية الاستيطان المكثف بعض المناطق في الأراضي الفلسطينية بهدف ترك الباب مفتوحا أمام خيار تبادل الأراضي بما يضمن بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة جزءا من الدولة اليهودية، فضلا عن إمكانية نقل العرب داخل إسرائيل إلي هذه المناطق بما يضمن نقاء الدولة علي أساس ديني. وفي الخاتمة، فإنه يمكن القول بأن الاستيطان، كما تم التخطيط له من قبل الحركة الصهيونية ووضعه موضع التنفيذ علي أيدي الحكومات الإسرائيلية، قد أثر بشكل واضح علي كافة قضايا التسوية النهائية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، بشكل جعله يتقاطع مع كل الملفات ليفرض نفسه بوصفه القضية المحورية التي تؤثر علي مصير القضايا الأخري مثل مستقبل القدس، عودة اللاجئين، وحدود الدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها.