عندما صدر وعد بلفور في نوفمبر 1917 الذي يطالب بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، اكتفي العرب بالشجب والتنديد والصراخ، بينما راح عرب آخرون يهزون أكتافهم لا مبالاة واعتبروا هذا الوعد بمثابة أضغاث أحلام لن تري النور! وطوال السنوات التي تلت صدور هذا الوعد راح اليهود يعملون علي تحقيق هذا الوعد وتحويله إلي واقع فعلي بكل السبل!! وتبني اليهود الذين كانوا يعيشون في البلاد العربية شعارًا بسيطًا تقول كلماته ضرورة التفاهم بين العرب واليهود! وهكذا تم تأسيس الوكالة اليهودية عام 1922 ولعبت الدائرة السياسية بالوكالة دورًا من أخطر الأدوار السياسية في اختراق النخب العربية، والتسلل إلي الصحافة العربية! وفي المقال الماضي كشف شيخ الصحفيين حافظ محمود الدور المريب لهذه الوكالة ومحاولتها استمالة جريدة السياسة. لكن بعد سنوات طويلة كانت المفاجأة المذهلة التي كشفها الباحث والمؤرخ والأستاذ محمود محارب بدائرة العلوم السياسية بجامعة القدس في دراسته المهمة والموثقة المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية (1936-1939) ونشرها في مجلة الدراسات الفلسطينية العدد الأخير. أهمية هذه الدراسة غير المسبوقة إنها استندت إلي تقارير جهاز الاستخبارات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية وهي وثائق سرية ولم يكشف عنها إلا مؤخرًا! لقد تم نشر حوالي 280 مقالاً في الصحف اللبنانية والسورية نشرت بأسماء عربية مستعارة أو علي شكل تقارير كأنها من مراسلي هذه الصحف وإخفاء كاتبها الحقيقي الصهيوني! واللافت للانتباه - كما يقول الأستاذ محمود محارب - أن أولئك الذين مكنوا الوكالة اليهودية من اختراق الصحافة اللبنانية والسورية بهذه السهولة هم أنفسهم الذين كانوا يتحدثون وباحتجاج عن نفور وسطوة اليهود والصهيونية علي الصحافة في الدول الغربية! كانت البداية في أعقاب ثورة البراق في فلسطين عام 1929، حيث غطت الصحافة العربية أحداث هذه الثورة وساهمت في حشد وبلورة الرأي العام لمناصرة الشعب العربي الفلسطيني، وهنا بالضبط تنبه القادة الصهاينة إلي الدور المهم الذي تلعبه الصحافة! وبذل مسئولو الدائرة السياسية للوكالة اليهودية وجهاز استخباراتها جهودًا مكثفة من أجل التأثير في الصحافة العربية وقام حاييم كالفارسكي مسئول جهاز الاستخبارات بالوكالة اليهودية بزيارة بيروت في يناير 1930 وأفضت زيارته إلي تشكيل لجنة في بيروت مكونة من أربعة ناشطين يهود لبنانيين وذلك للتنسيق مع جهاز استخبارات الوكالة اليهودية بشأن التأثير في الصحف اللبنانية والسورية لاتخاذ مواقف موالية للصهيونية، ومنح جهاز استخبارات الوكالة اليهودية هذه اللجنة مائة وخمسين جنيهًا فلسطينيًا لتمكينها من القيام بمهماتها، وأشار كالفارسكي في تقرير له إلي أن هذه اللجنة تمكنت من تغيير مواقف بعض الصحف العربية في لبنان مثل صحيفة الأحوال وصحيفتي لوريان ولوسيري الصادرتين في بيروت باللغة الفرنسية كما أنه وأثناء وجوده في بيروت اجتمع بخير الدين الأحدب محرر صحيفة العهد الجديد والذي أصبح لاحقًا رئيس وزراء لبنان (!!) وقد أسهب كالفارسكي في حديثه عن ضرورة التفاهم بين العرب واليهود، وطلب من خير الدين الأحدب تقديم المساعدة للوكالة اليهودية بواسطة نشر مقالات موالية للصهيونية في صحيفته! ثم سأله في نهاية الاجتماع عن المبلغ الذي يريده في مقابل خدمته هذه فأجابه أنه يريد أربعمائة جنيه فلسطيني في السنة، وهو مبلغ اعتقدت أنه مبالغ فيه ثم اتفقنا علي 200 جنيه فلسطيني تدفع بأقساط كل ثلاثة أشهر!! وفي نفس الوقت زار دافيد بلين أحد المسئولين في جهاز الاستخبارات بالوكالة اليهودية القاهرة ثم تبعه فريدريك كيش رئيس الدائرة السياسية بالوكالة اليهودية وقد التقي كل منهما العديد من المسئولين في مصر، وكذلك قادة الطائفة اليهودية فيها، وسجل كيش في تقريره ما حققته هذه الزيارة. وكان أبرز هذه النتائج تنظيم مجموعة من اليهود المصريين للقيام بنشاطات في الصحافة المصرية كي تتخذ مواقف مناصرة للصهيونية ومصادرة الحكومة المصرية كراسات مناهضة للصهيونية نشرت في مصر وكذلك تنظيم مجموعة من المخبرين للعمل لمصلحة جهاز الاستخبارات التابع للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية! وحدثت تطورات كثيرة في الوكالة اليهودية كان من أهمها تولي موشي شاريت رئاسة الدائرة السياسية والذي قام بتوظيف الياهو ساسون في جهاز الاستخبارات والذي أصبح المسئول عن نشر المقالات الصهيونية في صحافة دمشقوبيروت. وفي يناير 1937 اجتمع كل من الياهو ساسون والياهو ابشتاين وكان من قادة الاستخبارات في الوكالة اليهودية - اجتمعا بوديع تلحوق المحرر في صحيفة الانشاء (السورية) في فندق أمية بدمشق وبحثا معه إمكانية أن يقوم بنشر مقالات في الصحافة السورية تشرح المشروع الصهيوني في فلسطين، ووافق وديع بشرط أن تزوده الوكالة بمواد معتدلة! وبعد عودة ساسون وابشتاين من دمشق إلي القدس أرسلا إلي وديع بمقال عن العلاقات الاقتصادية بين فلسطين وسوريا لنشرها في صحيفة الإنشاء أو في إحدي الصحف الكبري في دمشق! وطلب منه أن يرسل إلي الوكالة اليهودية ثلاثة أعداد أو أربعة وأخبره إنه سيرسل إليه قريبًا مقالات أخري، ولم ينس ابشتاين أن يعلمه إنه لكم مطلق الحرية في إدخال قلمكم علي المقالات وجعلها عند الضرورة ملائمة للنشر بالجرائد السورية بدون أن يحصل لكم بسبب ذلك أي وجع رأس! وما خفي في الوثائق كان أعظم وأكبر!