هذه المرة، لم أشعر بالحيرة البالغة التي تطاردني كل أسبوع قبل أن يستقر عقلي علي فكرة المقال التي تستحق التوقف عندها.. وليست قابلة للتأجيل. نعم.. افتقدت، هذه المرة، تلك الحيرة الكبيرة التي ألف أصدقائي وزملائي وقوعي فيها في اللحظات الأخيرة التي تسبق موعدي الأسبوعي المعتاد في إرسال هذا المقال إلي الجريدة. لم أشعر بالحيرة لأن هناك كثيرين كتبوا عن تطورات فيروس انفلونزا الخنازير وحالة الرعب العالمي من هذا الفيروس اللي كان ناقص إننا نصاب به ويقتلنا الرعب منه.. وكثيرون كتبوا عن سيناريوهات تأجيل الدراسة في المدارس والجامعات وحصاد رحلات العمرة.. وكثيرون كتبوا عن اضراب الزبالين غير المعلن وتقاعس بعض شركات النظافة الأجنبية وربطوا في مقالاتهم ما بين انتشار الزبالة أو تكدسها في الشوارع داخل المحافظات وانتشار فيروس انفلونزا الخنازير.. وكثيرون كتبوا عن برامج ومسلسلات رمضان علي شاشة التليفزيون المصري.. وكثيرون كتبوا عن صفقات القمح المشبوهة. وكثيرون كتبوا عن الهبوط الأرضي المتكرر في حي باب الشعرية.. وعن نقل الوزارات خارج العاصمة.. وعن فاروق حسني ومعركة اليونسكو.. وعن.. وعن.. وعن... ولكن.. للأسف الشديد.. لم يحظ خبر استشهاد لواءات الشرطة في الشارع وليس في البيت أو داخل المكتب المكيف بنصيب أكبر يستحقه بالفعل، من أقلام الكتاب.. صحفيين كانوا أو أصحاب رأي. هل عرفتم الآن لماذا افتقدت هذه المرة تلك الحيرة القاتلة؟ معقولة ياناس اثنين لواءات يروحوا كده في شربة مياه.. معقولة ياناس قيادات أمنية بهذا المستوي الرفيع يلقوا مصرعهم برصاصات غادرة يطلقها مهربو المخدرات.. وفين .. في الشارع.. وهنا لابد أن اتوقف مجبراً حتي يأخذ كل ذي حق حقه.. وهاتقولوا بتقول ليه الكلام ده.. وأجاوبكم بسرعة.. ما تستعجلوش انتظروا الفقرة الجاية. في الدراما التليفزيونية والسينمائية دائماً ما يكون لواء الشرطة جالساً في مكتبه المكيف الأثير وحوله ضباط من رتب عالية.. ينتظرون أوامر سيادة اللواء.. ودون نقاش.. ودائماً ما يتم التركيز علي سلبيات ضباط الشرطة وتقزيم إيجابياتهم وتسفيه خدماتهم الجليلة الوطنية للوطن والمواطن والدولة.. ودائماً ما تزخر الأفلام والمسلسلات بانتقادات ساخرة وحادة لرجال الشرطة. لا أستهدف بطبيعة الحال أن يمتنع صناع الدراما كلية عن توجيه الانتقادات لضباط الشرطة إذا أخطأوا وحادوا عن الطريق القويم أو سلكوا مسلكاً غير شريف. ولكنني أطالب أهل السينما بالقيام بدورهم التنويري والثقافي كما يجب.. وليس كما يحب الزبون.. أناشدهم أن يرأفوا بمشاعر بعض أهلنا واخواتنا وأقاربنا وجيراننا ممن يضمهم جهاز الشرطة.. فليس من مصلحة الوطن والمواطن أن تضع الدراما رجال الأمن دائماً أمام حارة سد! إنني أسأل صناع الدراما: ألا تستحق قصة اللواء إبراهيم عبد المعبود مدير مباحث السويس أن يعرفها الناس؟ .. لا أعرف اللواء عبد المعبود (الله يرحمه) والرجل ليس من بلدياتي.. ولكنه واحد من مصر لم يتردد لحظة واحدة - وهو برتبة اللواء - وبمجرد أن عرف مكان الخن الذي يختبئ فيه تاجر المخدرات الخطير أحمد عيد في منطقة المثلث بالسويس حتي ترك مكتبه ونزل إلي حيث كانت القوات المداهمة.. وهناك فتح المجرم الهارب نيران سلاحه الآلي علي الجميع واستشهد مدير المباحث في الحال برصاص قاتل وغادر. اللواء الشهيد قصته تدل علي أنه كان شجاعاً وجسوراً.. فقد كان يعرف ويعي جيداً مدي خطورة تاجر المخدرات وإجرامه فمن قبل ارتكب هذا المجرم جريمة قتل نقيب شرطة كان متواجداً في كمين أمني بالتجمع الخامس.. وكان بإمكان سيادة اللواء عبد المعبود أن ينتظر في مكتبه ويتلقي البلاغ من القوة المداهمة.. ولكنه آثر أن يكون مع ضباطه ورجاله.. وفضل أن يشارك بنفسه في عملية القبض علي هذا المجرم الهارب، الذي قتل عمداً ومع سبق الإصرار نقيباًَ منذ أكثر من عام.. ثم عاد وقتل لواء في الأسبوع الماضي.. أرجو أن لا تضيع من صناع الدراما المصرية قصة استشهاد اللواء عبد المعبود في السويس.. أو قصة استشهاد زميله اللواء مصطفي زيد رئيس مباحث الجيزة أوائل شهر رمضان الكريم بينما كان واقفاً قبل الإفطار مباشرة علي قدميه وبين رجاله ينظمون حركة المرور في طريق المحور.. ففي القصتين أبعاد درامية حزينة ليس بعدها أبعاد. لا يكفي أن نرسل عزاء لأسر شهداء الواجب ولا يكفي أن نمصمص الشفاه حزناً علي أرواحهم.. ولا يكفي أن نقرأ الفاتحة ترحماً عليهم.. لا يكفي كل هذا.. أو ذاك.. فهؤلاء الشهداء لقوا ربهم أثناء أداء واجبهم.. وواجبنا - نحن الأحياء - أن نعي بإخلاص ونؤمن بيقين بجهد كل فرد في جهاز الشرطة الذي يجعلنا ننام، كل يوم دون خوف ونصحو ونحيا، كل أيامنا، في أمن وأمان.. كل فرد وأي فرد في هذا الجهاز قد يكون ابناً لنا أو شقيقاً أو قريباً. لا أعرف كيف أنهي هذا المقال.. ماذا أكتب.. عاودتني الحيرة التي أشعر بها كلما شرعت في تجهيز نفسي لكتابة أي مقال.. حيرتي تزداد الآن.. تزداد وتزداد.. ليس أمامي سوي أن أرفع القلم من علي الصفحات.. .. خاتمة المقال تأبي أن أكتبها.. قلمي عاجز أصابه الجفاف.. ليس أفضل من هذا الختام رفعت الأقلام وجفت الصحف!