أبدي الرئيس مبارك تفهما لمطالب أهل النوبة وأصدر تعليمات صريحة بضرورة تلبية مطالبهم وأحدثت هذه المواقف وقعاً طيباً في نفوس أهل النوبة في الداخل والخارج حيث استقبله أعضاء الجالية النوبية بواشنطن بباقات الورود. ما يثير الدهشة أن المرحلة السابقة شهدت أيضاً تبايناً في الاراء التي تتعلق بطبيعة المطالب وأولويات تنفيذها وهذا التباين هو رد فعل طبيعي لتعدد قيادات النوبة والأصوات التي تعبر عن آمال الأهالي وطموحاتهم، الجدير بالذكر أن أحداً لا يستطيع أن يشكك في وطنية وإخلاص هذه القيادات غير أن الطموحات الشخصية والولاءات الحزبية تجعلها أحياناً غير قادرة علي كسب ثقة المواطنين. لقد شهدنا في الفترة السابقة انفراجاً للأزمة حين اتفق الجميع علي اختيار شخصية نوبية متزنة هو اللواء عبدالوهاب أبازيد الذي عقد عدة لقاءات مع المجموعات النوبية والتي اسفرت عن وثيقة تعبر عن المطالب الأساسية لأهل النوبة. وتوضح الوثيقة النوبية الأخيرة أن أهل النوبة يرغبون في العودة إلي وطنهم الذي تم تهجيرهم منه في الستينيات من القرن المنصرم. وهذه العودة تتطلب إعداد 41 منطقة تمثل القري التي تركوها خلفهم. ربما يشعر البعض بالدهشة لأن مطالب النوبة كما هو مبين في الوثيقة تختلف عن المطالب التي كانت مطروحة في المراحل السابقة. والأسئلة التي تسنح في الذهن هي: لماذا اتفق النوبيون علي اختيار اللواء أبازيد لكي يمثلهم أمام الجهات الرسمية؟ ولماذا يطالب النوبيون ب41 منطقة بدلاً من المناطق الست التي تم الإعلان عنها؟ لاشك أن اختيار اللواء أبازيد لقيادة المشهد النوبي يعد اختياراً سليماً لأسباب مختلفة: أولاً: اللواء أبازيد من أبناء النوبة ومن القيادات الأمنية المحترمة التي تولت مسئولية الأمن في مواقع عديدة في فترة حرجة ولا يمكن أن يشك أحد في وطنيته وولائه. ثانياً اللواء أبازيد لا يتحرك من منطلق طموحات وأهداف شخصية يرغب في تحقيقها، إذ إنه لم يعلن عن رغبة في الترشيح لانتخابات قادمة، وهو بذلك شخصية متحررة من القيود التي تكبل الآخرين. من المعروف أن بعض الشخصيات التي تحدث صخباً في الساحة النوبية لديها أجندتها الخاصة وطموحاتها الشخصية التي تقف عائقاً أمام التواصل مع مطالب الأهالي. لا أعتقد أن مشكلة النوبة تكمن في بناء منازل المغتربين التي تقاعست حكومات متعاقبة عن توفيرها بل المشكلة تتمثل في جهل الكثير من المصريين بحقيقة تهجير النوبيين والظروف التي صاحبتها. لقد توصلت لهذا بعد قراءة تعليقات بعض المواطنين حول المطالب النوبية. من الملاحظ أن المشهد في النوبة أشبه بمسرحية كوميدية ممزوجة بالتراجيديا، فالجاهل بجغرافية النوبة ربما يتساءل لماذا يطالب أهل النوبة بالعودة إلي 41 منطقة بدلاً من المناطق الست حول البحيرة. قبل التهجير كانت هناك ثلاث مجموعات هي الفاديكا والكنوز والعرب وهذه المجموعات كانت تعيش علي ضفتي النيل في مناطق مختلفة تمتد من الشمال إلي الجنوب علي امتداد 350 كيلو مترا. وكان عدد قري النوبة حوالي 41 قرية: 17 قرية في الشمال للكنوز و8 قري للعرب و16 قرية في الجنوب يقطنها مجموعة الفاديكا. هذا القري موجودة الآن بمسمياتها القديمة في منطقة التهجير غير أن المساحة التي تحتلها لا تتعدي 40 كم. الجدير بالذكر أن سكان النوبة في هذه المنطقة موزعون بنسب متباينة بين هذه المجموعات الثلاث حيث تمثل مجموعة الفاديكا حوالي 57.8 ٪ والكنوز 32.7 ٪ أما العرب فتترواح نسبتهم 9.5 ٪ . لقد كانت مطالب أهل النوبة في الماضي القريب بسيطة بحيث لا تتعدي بناء منازل المغتربين التي فشلت حكومات متتالية في إنهائها وكذلك إجراء ترميمات للمنازل الحالية التي شيدت في مواقع ذات تربة صالحة للبناء. قد لا يعلم البعض أن الأهالي لم يتوقفوا عن المطالبة بحقوقهم مستخدمين كل الوسائل المتاحة من عرائض والتماسات غير أنهم لم يلقوا سوي التسويف أو المماطلة. ومع مرور السنين تغيرت الظروف وارتفع سقف الطموحات والآمال. في الماضي لم تكن البطالة تحتل مكاناً في قائمة المطالب إذ كان الشباب يجدون وظيفة بمجرد اتمام الدراسة. أما الآن فإن نسبة البطالة ارتفعت ارتفاعاً ملحوظاً لدرجة أنها باتت تهدد السلام الاجتماعي، هذا فضلاً عن أن معظم قري النوبة لا تشتمل علي ظهير صحراوي يستوعب الزيادة السكانية ومن ثم فإن الأهالي باتوا غير قادرين علي توفير منازل لأبنائهم. في الماضي كانت النوبة دائرة مستقلة يمثلها نائب تحت قبة البرلمان أما في الوقت الحاضر فإن النوبة جزء من دائرة كوم امبو ومن ثم فإنها لم تعد قادرة علي اختيار مرشح لها وهذا الوضع يفسر التخبط والارتباك الذي نشهده علي الساحة السياسية.