في كل مرة، أشاهد أو أستمع إلي عمل فني يستوحي حكاية "أدهم الشرقاوي"، وآخرها المسلسل الذي يشاهده الجمهور في رمضان من بطولة "محمد رجب"، أستدعي معلومات دراسة قديمة أعددتها عن مأساة الأصل وبطولة الصورة المأخوذة عن هذه الشخصية الحقيقية، وأظن أن هذه المعلومات التي سيتم عرضها في هذا المقال يمكن أن توسع من زاوية رؤية مشاهد حلقات "أدهم الشرقاوي" طبعة 2009 مما يتيح الفرصة لمعرفة المدي الذي وصل إليه استلهام الحكاية الحقيقية، مع ملاحظة أن روعة الفن وسحره تكمن في هذه الرؤية المختلفة للوقائع من خلال ثقافة وخيال الفنان، من حق كل مؤلف أن يضيف ويحذف بشرط أن يقدم في النهاية عملاً متماسكًا ومتقن الصنع، ومن حق المشاهد - من ناحية أخري - أن يقبل أو يرفض بعد أن تتاح له فرصة المقارنة الواسعة. مصادر كثيرة تتحدث عن حياة "أدهم الشرقاوي" الحقيقية، وفي كتاب الراحل "صبري أبوالمجد" الذي يحمل عنوان "المسيرة الطويلة مع السادات علي طريق النضال" ستجد تفصيلات عجيبة وصورة غير عاطفية بالمرة للشقي "أدهم الشرقاوي" التقطت بعد مصرعه بحوالي 25 ساعة، ويستند "أبوالمجد" إلي عدد مجلة "اللطائف المصورة" في 31 أكتورب 1921 التي سردت تفصيلات طازجة عن هذا الشقي الخطير الذي صرعه البوليس في نفس الشهر، وكان عمره يوم مصرعه نحو 23 عامًا فقط. ولد "أدهم عبدالحليم الشرقاوي"، بناحية زبيدة من بلاد مركز "إيتاي البارود"، أرسله والده إلي المدرسة الابتدائية فأتم التحصيل حتي السنة الرابعة فقط، ثم أخرجه الأب من المدرسة لأن "أدهم" لم يكن مباليا بالتعليم وكان مشاغبًا يتعدي علي التلاميذ، وفي سنة 1917 ارتكب "أدهم" جريمة قتل، وكان عمه عمدة "زبيدة" أحد شهود الإثبات، ومن وقائع فتوة "أدهم" المبكرة أنه لما سمع أحد الشهود يشهد عليه أمام محكمة الجنايات، حاول نزع السنجة التي كان يحملها أحد العساكر بالمحكمة لكي يضرب الشاهد بها، وقد حكمت عليه هذه المحكمة بالسجن لمدة سبع سنوات. في سجن "ليمان طرة"، هناك تعرف - أثناء قطع الأحجار - علي أحد الأشقياء، وعرف من خلال الحوار معه أن الشقي هو القاتل لأحد أعمامه، وأن الحادثة قيدت ضد مجهول، ولذلك قرر "أدهم" الأخذ بالثأر، فقتل زميله باستخدام هراوة، وحكم عليه هذه المرة بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعندما اندلعت ثورة 1919، هرب "أدهم" من السجن وعاد متخفيا إلي بلده، وكون عصابة كبيرة، واستهدف قتل عمه "عبدالمجيد بك الشرقاوي" عمدة "زبيدة" الذي شهد عليه في قضيته الأولي، فلما فشل في ذلك ركز نشاطه من قتل وسطو في "زبيدة" حتي يتم رفت عمه من منصبه، وطور "أدهم" نشاطه فأصبح قاتلاً مأجورًا ومن ضحاياه مثلا أحد الخفراء بعزبة "خلجان سلامة" وشقيقه الشيخ "يوسف أبومندور" من أعيان المركز وغيرهم كثيرون، كما فرض الإتاوات علي العمد والأعيان، واستخدم عصابته في قطع الطريق والسطو علي التجار، ومن جرائمه المشهورة قتل الشيخ "حسين الشوني" من أعيان ناحية كفر خليفة في العاشرة صباحًا أمام خمسة من أصدقائه كانوا يقفون معه أمام المنزل، وبهذه المواصفات يبدو "أدهم" الحقيقي في صورة أقرب إلي شخصية "عتريس" في فيلم "شيء من الخوف"، والفارق أن أهل قريته لم يثوروا عليه مثل "عتريس"، ولكن البوليس هو الذي قتله بصعوبة بالغة بعد ثلاث سنوات روّع فيها البحيرة، كان "أدهم" يعرف أنه مطلوب، ولذلك كان دائم الانتقال بين إيتاي البارود و"كوم حمادة" و"الدلنجات"، وأخيرًا أوفد له ملاحظ بوليس التوفيقية أحد "الجاويشية" ويدعي "محمد خليل" ومعه أونباشي سوداني وأحد الخفراء، فكمنوا له في الغيطان بزمام عزبة جلال التابعة لناحية "قليشان"، وبإرشاد رجل اسمه "محمد أبو العلا" كان قد تخاصم مع "أدهم" تم تحديد مكانه في أحد مزارع القطن، فلما سمع "أدهم" حركة اقتراب البوليس أطلق النار ولكن الجاويش "محمد خليل" أطلق عليه رصاصتين فمات علي الفور قبل أن يتناول طعامه الذي كانت تحضره له امرأة عجوز. عندما قتل "أدهم" الحقيقي وسط المزارع كانت بحوزته بندقية موزر وخنجر ومائة طلقة، وقد أجمع خبراء الأمن علي أنه لم يكن قوي العضلات أو ضخم الجثة، ولكنه كان من أجرأ وأشرس اللصوص والقتلة، ولم يكن يبالي بالحكومة ولا ببطشها. ما نشرته "اللطائف المصورة" - إذن - لم يكن لطيفًا بالمرة عن هذا الرجل الذي كان يمكن أن يندثر اسمه لولا أن الفن والحسّ الشعبي قام بتخليده، فتحول من خلال الموّال الشهير إلي بطل يحاول تحقيق العدالة بيده انتقامًا لمصرع عمه ومع ثورة 1919 بدت الحكومة (وربما السلطان فؤاد أيضًا) في معسكر آخر أقرب للتواطؤ مع الاحتلال، وهكذا أصبح لخروج "أدهم" علي الحكومة إضافة لفكرة التمرد أمرًا يصبّ في مصلحة الثورة، بل إن "أدهم" أصبح في الموال ترجمانًا للحكمة الشعبية، ونموذجًا للوفاء لعمه في مقابل خيانة أصدقائه لدرجة أنه قال وهو يحتضر علي لسان الموال: أمانة يا من عشت بعدي ما تأمنش لصاحب دنيا غرورة، مافيش ولا صاحب إلا يجيلك الأذي بأديه! وفي الفيلم الشهير الذي حمل اسم "أدهم الشرقاوي" وأخرجه "حسام الدين مصطفي"، وقام ببطولته "عبدالله غيث" عام 1964 عن قصة للرائد الكبير "زكريا الحجاوي" وسيناريو وحوار "سعد الدين وهبة" تطورت شخصية "أدهم" إلي مناضل يساعد الفلاحين في الوقوف ضد الهانم الكبيرة صاحبة القصر - وابنة وزير الداخلية - التي تحتكر شراء محاصيلهم بالسعر الذي تحدده، ويتم نفي "أدهم" إلي الواحات كما نُفي "سعد" زغلول إلي مالطة وسيشيل بل إن الهانم تقوم بإغرائه دون جدوي حتي تكسبه إلي صفها، أنه أقرب إلي مناضل اشتراكي يواكب مرحلة ما بعد صدور القوانين الاشتراكية، كما إنه يقاوم الإنجليز، ويجبر عمه الإقطاعي علي التنازل عن 50 فدانًا لعشرة من الفلاحين، وبصفة عامة فقد حوّل "حسام الدين مصطفي" المفتون بأفلام "الويسترن" "أدهم" إلي مزيج عجيب يجمع بين "روبن هود" و"چيفارا" و"زاباتا"! "أدهم الشرقاوي" طبعة 2009 في مسلسل جديد سبقته منذ عدة سنوات حلقات - عن نفس الشخصية الثرية، والبطولة لممثل أكثر وسامة بالتأكيد من "أدهم" الأصلي، ليس مهمًا أن تحدث تغييرات وإضافات ولكن المهم الرؤية المختلفة التي نتمني أن تتحقق في نهاية رمضان بعد عرض كل الحلقات لأن الموال والفيلم بل والحكاية الأصلية يضعون كل من يتصدي للكتابة عن "أدهم" في مأزق حقيقي، وإذا لم تصدقني، أدعوك - من فضلك - لإعادة القراءة من جديد