كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة عصرا عندما أوصل أحدهم صندوقا متوسط الحجم ، سلمه لدى حارس العمارة التى يسكن فيه سامح عمران فى حى الهرم، وهو الذى يعمل كمترجم عن الروسية، كان أحد رجال المباحث العامة قد أغلق باب سيارته الجيب بهدوء، واتجه إلى الحارس، وبنظرة حاسمة وبعد تبادل العبارات بينهما أخذ الصندوق وعاد إلى السيارة، وبنظرة فاحصة وجد الصندوق عبارة عن علبة شيكولاتة عادية، لكن حاسته الأمنية قادته إلى إحدى القطع الملفوفة ليجدها ورقة من فئة العشرة دولارات، قام بمسح سريع للعلبة ليجد مبلغ 130 دولارا موزعة على عدد من القطع الأخرى. أعاد كل شىء لوضعه الطبيعى وثبت كارت المرسل فى مكانه، وأعاد الصندوق إلى الحارس بعد أن لقنه ما يقول. فى صباح اليوم التالى كانت الإشارة البريدية على مكتب العميد ( أ.س) التى أشار عليها لتذهب للرائد ( أ. ز). هو رجل هادىء الطباع، صوته يشبه فحيح الأفاعى، حاد النظرات وسيم، ذو لكنة ريفية، لا يميل إلى العنف فى عمله وإن كان مظهره الخارجى يوحى بذلك. أعاد الرائد ( أ. ز) قراءة الإشارة أكثر من مرة وهو يحتسى القهوة، وينفث دخان سيجارته السوبر بعيدا إلى النافذة التى استقرت وراء مكتبه، حيث كان يجلس تجاهها مباشرة وقد رفع قدميه على حافتها تاركا فضاء مكتبه خلف ظهره. أحضر الساعى تقريرا مفصلا عن سامح وبدأ الرائد فى التحرك بعد أن قام بالاستعلام عن الهدف ومعرفة كل شىء عن حياته السابقة، لاسيما وأنه كان رئيسا لاتحاد طلبة كلية الزراعة، وكان له نشاط شيوعى فى تلك الأثناء وهو الآن يخدم فى الكتيبة 217 مشاة، كمترجم للخبير الروسى (فلاديمير ايزاك). لم يرسل الرائد ( أ.ز) إشارة إلى أمن تلك الكتيبة كالمعتاد، ولكنه توجه إليها مباشرة بنفسه، لا ليحقق مع الهدف، ولكن ليقابل أحد زملائه الذين يقومون بالوظيفة نفسها وكان يدعى حامد طاهر، الذى كان رده عندما سأله الرائد ( أ.ز): انت تعرف سامح عمران؟ حامد: نعم ده دفعتى واحنا فى الكلية وكان توجهه شيوعيى، ولما اخدونا فى الجيش، ادونا فرقة ترجمة روسى فى أكاديمية ناصر، وبعدين وزعونا على الوحدات وأنا وهو دلوقتى مع الخواجة فلاديمير. الرائد ( أ. ز): وبتعمل ايه مع الخواجة ؟ حامد : ده ابن كلب بيُعد يتكلم فى التاريخ والإسلام وبيخلى نفسية الواحد زى الزفت. الرائد (أ.ز): وبيقول الكلام ده أدام مين؟ حامد: أدام الضباط والعساكر كلهم وانا غصب عنى بترجمه واقوله لهم بالعربى ربنا يسامحنى بقه. أخذ الرائد (أ.ز) يقلب الكلام فى رأسه ثم انصرف إلى مقر المخابرات بعد أن أخذ تقريرا كتابيا من حامد بكل ما قاله، وطلب منه أن يكون على اتصال مباشر معه شخصيا دون وسيط، وأن يتابع الموقف ويسلم له فى كل إجازة تقريرا مفصلا عن ملاحظاته عن الخواجة "فلاديمير" ومترجمه سامح عمران. أرسل الرائد ( أ.ز) هذا التقرير إلى المدير الذى أشارعليه للعرض على السيد الوزير، الذى أشار عليه بدوره للرئيس السادات. كانت خطة الرائد (أ.ز) أن يحصل على قائمة بأسماء مترجمى اللغة الروسية فى القوات المسلحة من كافة الدفعات بعناوينهم المدنية والعسكرية وانتقاء نخبة من أفضلهم وأكثرهم إخلاصا وحفظا للسر للحصول من خلالهم على إخبار الخبراء الروس الذين كانوا ينتشرون فى كافة وحدات الجيش. كانت خطوته الأولى حيث الإدارة المسئولة عن الخبراء الروس فى الجيش، وهناك كان أحد أقاربه مسئولا بشكل مباشر عن ذلك وهو برتبة عقيد، لكنه رفض إعطاء قائمة بأسماء المترجمين للرائد (أ.ز) قبل الرجوع إلى المدير المباشر له، حاول الرائد إقناعه بأهمية الموضوع وسريته التامة، لكن دون جدوى، فأنهى الرائد (أ.ز) مقابلته سريعا قائلا للعقيد: طيب انسى كل اللى قلته لك وانت المسئول، لو أى حاجة اتعرفت عن الموضوع ده. وأثناء خروج الرائد (أ.ز) من مكتب العقيد وشعوره الشديد بخيبة الأمل، كان عقله يعمل كالمعتاد وبسرعة مع الظروف المحيطة بالهدف، وفى تداع للأفكار تذكر معلومة قيلت أمامه أثناء حوار جرى مع زميله فى المخابرات عن ضابط برتبة رائد فى المكان نفسه الذى يحوى الهدف، وكان حول مشكلة لحقت بأخ هذا الضابط تم حلها بهدوء ودون ضجيج حرصا على سمعة هذا الضابط ومكانته. وهنا توقف الرائد (أ.ز) فجأة وانعطف يمينا فى ذلك الممر بعد أن سأل عن مكتب هذا الضابط، وطرق الباب... كان الرائد ( كامل) فى مكتبه وخلفه أحد العساكر يقوم بتنظيم الملفات ووضع الورد وتنسيقه.. بعد التعارف بينهما جلس الرائد (أ.ز) فى الواجهة وقال بهدوئه المعهود، أخبارأخو سيادتك إيه؟ الرائد كامل: أنا عارف انت جى عشان الموضوع ده والله اتحل وأرجوك.. قاطعه الرائد (أ.ز) قائلا: أنا بالطمن عليه، بس أنا جايلك فى موضوع تانى خالص.. فيما يُشبه حالة العرفان بالجميل، رد كامل: أؤمر يا فندم ... وبدأ الرائد (أ.ز) يشرح الموضوع بالتفصيل ومدى أهميته ورد فعل مدير الإدارة المتحفظ، وهنا رفع ( كامل) يده اليمنى مشيرا بسبابته إلى عينه اليمنى ثم اليسرى، ثم نادى على "الامباشى" الذى بحوزته سجل البيانات، وقام الرائد (أ.ز) بنقل كل البيانات المطلوبة بهدوء وسرية تامة. كان الاتفاق بينهما يقضى بأن ترسل الإدارة إشارة لعشرين مترجما، من كل دفعة يتم انتقاؤهم بعناية وحرص، ليحضروا إلى مقر الإدارة ليتسلموا هدايا تشجيعية على قيامهم بمهام الترجمة، وهناك يكون الرائد مع مندوبين من الجهاز فى استقبال المترجمين والإشراف عليهم أثناء كتابتهم تقارير عن أداء ومضمون كلام الخبراء الروس، وأيضا الاتفاق معهم على دورية كتابة هذه التقارير وأن هناك من سياتى لكل واحد أثناء إجازته ليأخذ منه التقرير وهو فى منزله. وبدأت التقارير تنهال وتؤكد ظنون الرائد (أ.ز) الذى بدأ بدوره فى قراءة كل ما كُتب عن الشيوعيين فى كل الكتب الموجودة فى مكتبة المخابرات، وجمع المادة العلمية التى يمكن من خلالها تقييم ما قد يرد فى هذه التقارير، وهناك توقف عند كتاب كان يتوافق مع قناعاته وطريقته فى أداء عمله المخابراتى وهو "كيف تكون محبوبا وتكسب الأصدقاء". المبادئ هى التى تجمع أصحابها وبالضبط هذا ما حدث بين الرائد (أ.ز) وبين عشرات المترجمين من خيرة شباب مصر الذين يخدمون فى الجيش، تجمعوا كلهم على مبدأ الإخلاص والوطنية وأن هناك شيئا ما يُحاك ضد الوطن لابد من معرفته والإيقاع به. فى يوليو 1972 صدر قرار الرئيس السادات بطرد الخبراء الروس من الجيش وكان ذلك أثناء خطابه فى الاتحاد الاشتراكى، وكان يجلس مع أعضاء اللجنة المركزية، كل من السفير/ حافظ إسماعيل والدكتور على السمان، الذين بدا عليهم التعجب أثناء سماع هذا القرار الذى صدر بلهجة وعبارة صادمة من الرئيس السادات، بعدها بفترة ليست بالطويلة كان الدكتور/ عزيز صدقى - الذى يحظى باحترام الروس- على مائدة المفاوضات معهم، وتحديدا فى 13 من يوليو وقع اتفاقية تعاون وتحالف مع الاتحاد السوفيتى، وبعدها بعدة أشهر وتحديدا فى 16 من أكتوبر من العام نفسه، وقع اتفاقية أخرى حصل بموجبها الجيش المصرى على 16 طائرة "ميج"، و16 طائرة "سوخوى" ولواء صواريخ أرض أرض" سكود" مدى 300 كيلو مترا. كانت اللعبة السياسية تهدف لاحتواء غضب الروس من قرار الطرد وأيضا إبقاء الصلة قائمة والتعاون معهم، ولكن الهدف الأكبر الذى حققه السادات فيما بعد هو أن يكون قرار الحرب مصريا خالصا وتحييد الولاياتالمتحدةالأمريكية التى كانت ستعتقد فى بقاء الروس بمصر أثناء هذه الحرب جزءا من الحرب الباردة، وعندها لن تسمح أمريكا بأن تنتصر روسيا. بُعيد حرب أكتوبر تقابل كل من الرائد (أ.ز) وحامد طاهر، المترجم الذى كان يعمل بإخلاص ودأب، وكانت قد نشات علاقة صداقة قوية بينهما، وكان يدعى "حامد طاهر" وجلسا وهما يجتران الذكريات فى "جروبى" عن تلك المرحلة الخطيرة، وتلك القضية التى كانت تستهدف كسر الروح المعنوية وزعزعة عقيدة المقاتل المصرى قبيل الحرب، لم ينس الرائد (أ.ز) أن يبوح لحامد طاهر بسر: فاكر يا حامد الخواجه ( فلاديمير ايزاك) بتاع الكتيبة 217 مشاه؟ حامد: آه طبعا اللى كان بيترجم له سامح. الرائد (أ.ز): احنا قبضنا عليه وما طردناهوش زى باقى الخبراء الروس. حامد: ليه يافندم، اشمعنى؟ الرائد (أ.ز): بعد متابعته ووضعه تحت الرقابة الدائمة عرفنا أنه عميل للموساد، وبتقرير وصلنا من سفارتنا فى لندن وتأكدنا أيضا من اتصال بأحد قادة الموساد الكبار وهو " افرايم هالفى ".. حامد: وهو فين دلوقتى؟ وبتردد قال: عملتو فيه ايه؟ تعالت ضحكات الرائد (أ.ز) ردا على سؤال حامد الذى حاول حينها أن يُسرع فى التقاط الفاتورة من النادل ليحاسب عليها، ولكن الرائد (أ.ز) كان أسبق منه إليها..