عشت فى الجزائر فترة من سنوات الدم والدموع.. قرأت وسمعت شهادات ورأيت بعينى ما حدث ونتائجه وآثاره.. كنت أتحاور مع أصدقائى من المثقفين والصحفيين، حول سؤال لغز كيف تركتم وطنكم يذهب إلى هذا المجهول؟! ففى مطلع القرن الجديد كان المجتمع الجزائرى يصارع الخروج من المستنقع.. لكنهم جميعا يتكلمون حول المؤامرة التى أخذتهم إلى تلك الهاوية!! فى الجزائر كان التيار الإسلامى شابا يافعا، وعندما استعرض عضلاته.. خاف منه الجميع.. استخف به الجميع.. بل سخروا منه.. تعامل معه الساسة وأصحاب الرؤى الاستراتيجية، على أنه معادلة كيمياء يمكن إنتاجها فى المعمل.. وعلى الجانب الآخر تعاملت جبهة الإنقاذ الإسلامى مع كل أولئك على أنهم نتيجة خطأ لمقدمات خطأ.. أى أن الطرفين استخفا ببعضهما البعض.. مضيا فى طريقين متوازيين.. وقع بينهما الشعب.. كان لا بد من نقطة التقاء.. كلاهما أصر على الفراق والصراع.. فكانت سنوات الدم والدموع.. بعضهم يسميها سنوات الدم والنار.. فى كل الأحوال، غابت الجزائر عن الخريطة العربية.. غابت عن شعبها وساستها.. لكنها بقيت كقطعة من أحجار الشطرنج!! تمضى السنوات.. يختلف الزمان.. يختلف المكان.. تهب على مصر نسمات الربيع العربى قادمة من تونس، لكن رياح الجزائر كانت قد غطت على النسيم التونسى.. اعتقدنا فى مصر أننا ذاهبون إلى الربيع.. لكن الرياح جاءت بما لا يشتهى الشعب المصرى الشقيق.. فرياح الجزائر أبعدتنا عن النسيم التونسى.. وإن اعتقدنا أننا فى لحظة الخلاص.. فأستطيع القول إننا داخل إعصار.. يعلم الله وحده، إلى أين سيأخذنا؟! ذهب المخلوع مع عصابته فى ظروف واضحة ومعلومة بالضرورة.. ثم كانت المرحلة التى أعقبت رحيله.. الصراع بين الحق والباطل خلال تلك شهور، كان معجونا بالكذب والخداع والنصب والاحتيال.. انتشت الأمة.. مارست كل ألوان العشوائية من فرط نشوتها.. فى تلك اللحظة كان أطراف الصراع يدركون خطورة جريمتهم.. انصرفوا إلى ممارسة لعبة الرهان على التاريخ وعلم الاجتماع، مع الوضع فى الاعتبار علم النفس الاجتماعى.. اتفق من اعتقدوا أنهم أذكياء.. كان يمكنهم الوصول إلى النتيجة المتفق عليها.. لكن كل منهم اتفق على الوسيلة، وجعل الغاية صندوقا أسودا يصعب على الغير معرفته! انخدع الشعب المصرى الشقيق وهو القادر على خداع كل من يعتقد أنه أذكى منه.. ظهر على الساحة فى صورة حكيم القرية.. وحكيم القرية إذا استبدت به الأمراض، يوافق الجميع على ما يريدون.. يعطى من يريد الحق حقا.. ويعطى من يريدون الباطل باطلا.. ويعطى من يشاء ما شاء.. لكنه لا يراهن على غير من أنجبهم من رحم حلال! أعود إلى الجزائر.. فالطبيعة هناك صخرية.. وصحراوية.. وأرض منبسطة زراعية.. لكن التضاريس هناك تشكلت بفعل المطر وعوامل التعرية.. أما فى مصر فالجغرافيا تقول إننا أرض صخرية وصحراوية ومنبسطة زراعية.. يخاصمها المطر.. لأن مصر هبة النيل كما سبق أن قال هيرودوت.. المثير أن أطراف الصراع فى الجزائر، كانوا يعلمون حقيقة الجغرافيا ولا يهتمون بقيمة التاريخ.. أما فى مصر فالعكس صحيح.. فكلهم يعرفون أهمية التاريخ وقيمته، لكنهم لم يحسبوا قيمة الجغرافيا! قبل شهور على مائدة جمعتنى وأصدقاء محترمين من نخبة الأمة.. مع محترمين من المجلس العسكرى قلت: باعتبارى يجب مناقشتى على أننى واحد من خبراء الشأن الجزائرى.. أخشى أن نذهب إلى طريقهم المسدود.. المذهل بالنسبة لى أن كلامى لم يلتفت إليه المرموقون من النخبة.. لكن ما أذهلنى أكثر أن الجنرالات تعاملوا معه، على أنه جملة عابرة.. فقد يكون المرموقون من النخبة لم يفهموا مغزى ومعنى ما كنت أقول.. لكن المحترمين من الجنرالات فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لا يمكن أن يكونوا غير مكترثين بما قلت! ظهرت مظاهرات العباسية فى مقابل التحرير.. اعتقد البعض من هواة التاريخ أن تجربة جمال عبد الناصر فى صراعه مع محمد نجيب يمكن أن تكرر.. لكننى تشدنى تجربتى فى الجزائر.. ويؤكد صدق حدسى ما سبق أن فعله الأخ الفقيد معمر القذافى، حين راهن على الصراع بين بنغازى وطرابلس.. وكذلك فعل على عبد الله صالح فى اليمن فى الرهان على صراع الساحات.. وبينهما بشار الأسد فى الرهان على دمشق وحلب مقابل حمص ودرعا.. وبما أننا الأذكى فى قراءة وفهم التاريخ.. فنحن نحاول تجاوز تجربة الجزائر المريرة، وتجنب ما يحدث فى ليبيا وسوريا واليمن.. لذلك عندما راقبت ورصدت ورأيت الساعات الأخيرة فى التحرير والعباسية.. على خلفية مراقبة ورصد للذين يراهنون على أنهم سيتجاوزون تجارب تركيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان.. استطيع القول إن مصر ستنتج نموذجا جديدا وغريبا لا علاقة له بكل من الجزائروتونس وليبيا وسوريا واليمن وتركيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان.. وإن سألتموني: إلى أين نحن ذاهبون؟! سأقول لكم: لو كنت أعرف، ما أطلت عليكم.. فتلك محاولة للتأكيد أن مصر الرائدة فى صنع الحضارة.. أخشى والعياذ بالله أن تكون رائدة فى هدم الحضارة.. والعاقبة عند الكذابين فى الثورات!