«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا لم تكتمل ثورات الربيع العربى؟

يبدو لى وأرجو ألا أكون مخطئاً أن بعض التعبيرات والأوصاف المجازية، تبدو فى بعض الأحيان ذات دلالة موحية وقدرة على الاختزال والوصف والتكثيف لظواهر ومشكلات وأزمات، وفوضى وانتفاضات وثورات، وهبّات جماهيرية، وعصيان، وتمرد إلى آخر هذه التعبيرات على اختلافها بحيث تتراجع مع مرور الوقت إلى الخلفيات - فى الذاكرة شبه الجماعية للشعوب والجماعات القومية والعرقية والدينية والمذهبية .. إلخ- بوقائعها وتفاصيلها وفاعليها وضحاياها ونتائجها، ويبقى المجاز التعبيرى حاضراً ومستعاداً من الحفريات التاريخية كى يختزل ويشير إلى بعض التشابهات، وإلى التمايزات والخصوصيات من حالة تاريخية واجتماعية وسياسية لأخرى.
ثمة بعض من المجازات الوصفية تكون فى بعض الأحيان والحالات غير قادرة على أداء وظائفها الدلالية والبلاغية السياسية أو الفلسفية أو الاجتماعية، ومن ثم تكون أداة ومادة للتشوش والاضطراب المفاهيمى والمعانى الغائمة، ويكون انتشارها جزءاً من بعض مظاهر الفوضى النسبية، والسيولة السياسية التى تشيع فى أعقاب بعض الأحداث التاريخية والتى سرعان ما تتحول إلى سيولة لغوية ومفاهيمية ودلالية. هذا ما يبدو من بعض ثنايا سجالات وتضاغطات حالتنا المصرية فى أعقاب 25 يناير 2011 وحتى اللحظة الراهنة - وفى المنطقة -حيث تسود لغة سائلة يخايلها الغموض، تقود إلى إشاعة بعض من وهن القدرة على الوضوح والإفصاح والدقة فى وصف وتحليل ما حدث فى المنطقة، ولاسيما فى مصر وتونس، واليمن، وليبيا، والبحرين، وسورية. بعض الأوصاف المجازية تشيع بعضاً من التفاؤل والأمل السياسى الجامح، وبعضها يؤدى مع تعقد الظواهر والتضاغطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية والإقليمية إلى إشاعة اليأس، والإحساس شبه الجمعى بالإحباط والفشل. فى مقدمة هذه التعبيرات المجازية تسونامى العربى، وربيع الثورات العربية، والثورة التونسية، والثورة المصرية. إن شيوع مصطلحات على هذه الشاكلة كثير، وتم استخدامها فى مقالات وأعمدة صحف وتعليقات إذاعية وتلفازية، وفى عناوين عديد الكتب لاسيما العربية والفرنسية والألمانية على نحو يستوقف الباحث المدقق إلى حد ما. ويطرح عديد الأسئلة سعياً وراء تدقيق ما.
هل نحن إزاء تسونامى عربى؟ يبدو أن هذا المصطلح قد تمت استعارته واستخدامه من مجال العلوم الطبيعية إلى العلوم الاجتماعية وهو على جماله المجازى إلا أنه محفوف بمخاطر الاختزال والتعميم والتبسيط وعدم الاتساق مع طبيعة ما حدث سياسياً واجتماعياً فى المنطقة، فضلاً عن اختلاف فعل وحركة الطبيعة وبين الفعل الإنسانى وحركته السياسية والاجتماعية.
الإفراط فى استخدام مصطلح ثورة، وثورات، يحتاج إلى وقفة لأنه يشير إلى غلبة الأمل على الواقع، الذى لا يزال يحملُ فى أعطافه بنيات النظامين الاجتماعى والسياسى الاستبدادى وشبكات الفساد السياسى والهيكلى والفاعلين الرئيسيين فى دوائره على تعددها، بل وفى إطار النخب السياسية المسيطرة التى تدير مراحل الانتقال فى مصر، وتونس وكذلك أجهزته على اختلافها، ولم تطرأ تحولات هيكلية تؤدى إلى ثورة وفق معانى ودلالة هذا المصطلح فى العلوم السياسية والاجتماعية، والتاريخ الحديث والمعاصر.
يقال إنها ثورات بمعايير مختلفة مستمدة من طبيعة عصرها، ومن الفاعلين الرئيسيين فى إطارها. هى ثورة جاءت من جدل الافتراضى مع الواقعى، وفى قلبها قوى جيلية شابة أقرب إلى عصرها وأدواته وفضاءاته الاجتماعية والتفاعلية، ووفق لغة جديدة وأدوات مختلفة، وتتجلى فى التنظيم والتعبئة والحشد والتنسيق والأداء والتبادلات الاتصالية والمعلوماتية الأكثر تطوراً. من هنا يقال نحن إزاء ثورات ولسنا أمام ما هو أقل منها. هذا الخطاب الدفاعى البلاغى المترعُ بالمجازات يجد انتشاراً فى لغة الكتابة والخطابات السياسية ولدى غالب المعلقين والإعلاميين. بيد أن هذا النمط من التوصيف يحتاج إلى مراجعة خاصة فى ظل حالة من تعثر نسبى فى عمليات التغيير الثورى، ومقاومات قوى النظام القديم وأجهزته وبعض مؤيديه على اختلافهم، بل إن غالبية قادة عملية الانتقال فى مصر، وتونس هم جزء من النظام السابق على نحو ما أشرنا سلفاً ويحاولون حصار العملية الثورية فى نطاق إصلاح جزئى فى بعض السياسات، والوجوه، وبحيث لا تمس جوهر النظامين الاجتماعى والسياسى، بل وبعض سياساته الخارجية الدولية والإقليمية لاعتبارات وتعليلات شتى تركز على المصالح، وطبيعة مرحلة البناء. كما فى المثالين التونسى والمصرى.
إن أساليب إدارة المراحل الانتقالية، وسعى بعض نخب ومؤسسات النظام السابق على الانتفاضات الديمقراطية الثورية فى مصر وتونس، إلى حصر التحولات السياسية فى نطاقات إصلاحية، ولا تتجاوزها إلى تغييرات بنيوية فى النظامين السياسى والاجتماعى، مما يؤدى إلى استمرارية عديد من السياسات العامة والاجتماعية على وجه التحديد، وعلى طرائق وضع خرائط الطريق للتحول السياسى، سواء فى صياغة خطوط الهندسات الدستورية والسياسية والحزبية، وأوضاع الحريات العامة والأساسية فى البلاد. إن خارطة الطريق التونسية هى تعبير عن التغيير من قلب المنظومة القديمة، ولكن من منظورات إصلاحية تتسم بالحد الأدنى من النظرة الكلية التى لا تؤدى إلى هدم كلى لبنيان دولة ما بعد الاستقلال. فى مصر لا يزال التضاغط السياسى، والصراع مستعراً بين القوى الإسلامية الإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية والسلفيين والأحزاب السياسية الليبرالية، والقومية وبعض اليسارية وبقايا رموز الحزب الوطنى المنحل، يخوضون معركة ضارية من أجل الوصول إلى تركيبة البرلمان القادم. من ناحية أخرى الأحزاب الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية واليسارية الجديدة، وائتلافات الثورة لم يصلوا إلى مرحلة الوصول إلى القواعد الاجتماعية التى يرغبون فى التعبير السياسى والاجتماعى عن مصالحها، وذلك فى ظل المرحلة الانتقالية الأولى على قصرها الزمنى.
من هنا تؤثر التضاغطات السياسية والصراعات الاجتماعية والفئوية على عملية صناعة قرارات السياسة الخارجية، وطرائق إدارتها سواء إزاء القضايا الإقليمية والدولية، بل وكيفية المحافظة على المصالح القومية المصرية والتونسية.
ثمة مشكلات وضغوط تواجه السياسة الخارجية المصرية فى الإقليم وإزاء العلاقة مع الفاعلين الرئيسيين فى النظام الدولى ولاسيما الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية أساساً، وفى الإقليم إزاء الفاعلين الرئيسيين تركيا، وإيران وإسرائيل والسعودية.
ثمة أيضاً بعض من ضغوط الجغرافيا السياسية والجغرافيا الدينية والعرقية والجغرافيا السياسية النفطية إذا ساغ التعبير وجاز على الثورات العربية وسوف تؤثر على مسار العمليات الثورية واحتمالات تطورها. والأهم أنها ستنعكس أيضاً على إدارة السياسة الخارجية للسلطات الفعلية التى تدير مرحلة الانتقال.
سوف نتناول فى هذه الورقة ما يلى:
أولاً: الجغرافيا السياسية والانتفاضات الشعبية العربية.
ثانياً: ضغوط الجغرافيا السياسية وأثرها فى إقليم النفط والمشرق العربى.
ثالثاً: المشرق العربى: الجغرافيا السياسية للأديان والملل والنحل والقوميات.
رابعاً: إدارة السياسة الخارجية المصرية فى مرحلة الانتقال: الاستمرارية والتردد.
أولاً: الجغرافيا السياسية والانتفاضات الشعبية
هل الجغرافيا السياسية هى التى ستغير «الربيع العربى»؟ هل يمكن طرح سؤال آخر: هل تساعد الجغرافيا السياسية على تغيير «الربيع العربى» على نحو إيجابى أو سلبى؟
ثمة إجابة سريعة تذهب إلى أن الجغرافيا السياسية بالغة الأهمية فى فهم ديناميات السياسات الدولية والإقليمية، وذلك على الرغم من أن ثمة تغيراً اعترى بعض النظريات القديمة فى تاريخ الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية التى تضفى على الوضع الجيو - سياسى لدولة أو مجموعة دول طابعاً مؤثراً بل وحاكماً فى الأقاليم الفرعية للنظام الدولى.
بعض الاكتشافات التكنولوجية المعلوماتية والاتصالية أدت إلى التأثير على بعض النظريات التى تناسلت من الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية، ومن ثم لم تعُد ثمة «حتميات» أو «قدريات» فى فهم جدلية الجيو سياسة، والتحولات السياسية الداخلية فى بعض الدول فى النظم الإقليمية التابعة.
بداية هل ساعدت الجغرافيا السياسية ''«الربيع العربى»، وبأى معنى؟
من الصعوبة بمكان القول القاطع بأن الجغرافيا السياسية كانت عاملاً مساعداً على دعم ما يطلق عليه مجازاً الربيع العربى، لأن العوامل البنائية وراء الانتفاضات الديمقراطية الثورية، تراكمت عبر مراحل تاريخية، وكانت وراءها عديد الأشكال الاحتجاجية والحركات الاجتماعية الجديدة، والكتابات والأبحاث النقدية التى أدت إلى انفجار الانتفاضة الثورية المصرية والتونسية على نحو متلاحق، وذلك على الرغم من تباين الأسباب المباشرة فى كلتا الحالتين.
لا شك أن ثمة عوامل جديدة أثرت على مصر وتونس منها، ثورة الاتصالات والمعلومات، وفضاءات الحرية على الإنترنت، وبلا حدود. إن حركة المدونات، ومواقع التفاعل الاجتماعى - تويتر، وفيس بوك - أدت إلى إنتاج فضاءات سياسية عامة وحرة، يتم فيها تبادل للأفكار والخطابات والرموز وذلك بلا حدود وبلا قيود. تم اللجوء من قبل عديد النشطاء الشباب إلى الواقع والمجال العام الافتراضى هروباً من الفضاء العام السياسى الفعلى المقيد بالسدود والعوائق الأمنية القمعية والسياسية والقانونية والإدارية والمطارد من قبل أجهزة الرقابة القمعية الشرسة. لا شك أن هذا المتغير الاتصالى/المعلوماتى ساعد على خلق جدلية جديدة للأفكار والروئ والحلول على الواقع الافتراضى، ثم سرعان ما تنتقل إلى الواقع الفعلى كما حدث فى مصر مع عديد الجماعات وعلى رأسها جماعتا 6 أبريل، وكلنا خالد سعيد. هذه الجماعات قامت بتمرينات سياسية أدت إلى ما تم فى 25 يناير 2011 ومن ثم إلى خلع الرئيس حسنى مبارك وبعض أركان حكمه وإلى حل حزبه الحاكم الحزب الوطنى الديمقراطى - من قبل القضاء المصرى.
الجغرافيا الاحتجاجية السياسية النتية إذا جاز التعبير هى التى أدت إلى تبادل الأفكار والخبرات بين الشباب الثائر فى تونس ومصر وامتد إلى بلدان عربية أخرى وذلك مع اختلاف الأسباب المباشرة، بل والعناصر المحركة لكلتا الانتفاضتين الثوريتين، بل وعلى المستوى المناطقى، بل والقوى الاجتماعية الرئيسة فى كليهما. تونس من منطقة الوسط المهمش سيدى بوعزيز وانتقلت إلى العاصمة، ومن عناصر فقيرة وعاطلة، ثم دخلت فى إطارها الفئات الوسطى الوسطى، والوسطى الصغيرة مع امتدادها إلى العاصمة من 18 ديسمبر 2010 حتى انتصارها فى 14 يناير 2011 يوم رحيل بن على عن الحكم وتونس معاً.
فى مصر الحركة الاحتجاجية الثورية تم التخطيط لها وإعدادها والحشد والتعبئة لها على الواقع الافتراضى مواقع التفاعل الاجتماعى والهاتف النقال انطلاقاً من أبناء الطبقة الوسطى الوسطى المدينية، فى القاهرة والإسكندرية وشاركت فيها السويس الطبقة العاملة الصناعية، والعاطلين، والطبقة الوسطى الصغيرة ثم انضمت إليها قوى ومناطق أخرى طيلة الأيام الثمانية عشر من 25 يناير إلى 11 فبراير حيث تم خلع الرئيس حسنى مبارك.
الجغرافيا الداخلية المناطقية والاجتماعية والتمهيدات الفكرية النقدية لمفكرى جيل السبعينيات وما بعد من القرن الماضى، وحركات الاحتجاج السياسى السابقة حركة كفاية وأخواتها والتمرينات السياسية المختلفة هى التى أثرت على إطلاق شرارة التحرك من قلب الطبقة الوسطى الوسطى المدينية فى القاهرة والإسكندرية أساساً إلى عديد المدن المصرية، وساعد عليها ودعم تحركها الأدوات الاتصالية والمعلوماتية الجديدة والتى نقلت شرارة الحالة الثورية من تونس إلى مصر التى كانت حبلى بالمخاض الثورى فى لحظاته الأخيرة.
هل ساعدت قواعد الجغرافيا السياسية الكلاسيكية إذا جاز التعبير على إنتاج أو إطلاق ما يطلق عليه ''الربيع العربى'' فى تونس ومصر؟
إن حالة تونس الجيوبوليتيكية وضعتها فى ظل توازن جيوبوليتيكى دقيق وحساس بين بلدين نفطيين هما ليبيا والجزائر، وكلاهما يمتلك جيشاً، وتركيبة سلطوية حاكمة، وثراء نفطياً ضخماً، من هنا تونس يمكن القول أنها إلى حد ما قد تكون رهينة وضعية كلا البلدين وضغوطهما على تونس. ومن ثم أثر ذلك على تطورات العملية الثورية، وعلى إدارة السياسة الخارجية التونسية التى سعت إلى تحقيق استقرار سياسى سريع لمواجهة المشكلات الاقتصادية الناجمة عن تراجع معدلات التدفق السياحى الأوروبى، والعربى الجزائرى 20% والخليجى أيضاً وكذلك على بقية القطاعات الاقتصادية. من هنا اتسمت السياسة الخارجية بمحاولة مواجهة مخاطر ما حدث ولا يزال فى ليبيا واستيعاب الهجرة الليبية فى أعقاب الأحداث التى تمت داخلها. نستطيع القول أن السياسة الخارجية التونسية، ظلت تحتفظ ببعض معالم تحركها التقليدية فى ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن على، والتى تدور على توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودول المجموعة الأوروبية، وعدم إثارة أية مشكلات أو توترات مع الجزائر أو بقية الدول المجاورة. والسعى نحو الحصول على القروض والمعونات والمساعدات الدولية.
فى هذا الإطار نطرح سؤالاً: هل ثمة تأثير سلبى للجغرافيا السياسية على تطور العملية الثورية فى تونس؟ ومن ثم على سياساتها الخارجية فى المرحلة الانتقالية؟
نستطيع القول أن تونس شكلت مثالاً على إمكانية بعض من التأثير السلبى للجغرافيا السياسية على إمكانية تطور ''الربيع التونسى'' من حالة ثورية قابلة للتطور نحو تغيير جذرى للنظام السياسى والاجتماعى إلى إصلاحات ديمقراطية أقرب إلى ربع أو نصف ثورة فى نظر بعضهم - منها إلى ثورة كاملة، وذلك لعديد الاعتبارات نرصدها فيما يلى:
1- خشيت النخبة الجزائرية الحاكمة من امتداد العملية الثورية التونسية إلى داخل التركيبة الاجتماعية والسياسية الجزائرية، على نحو يؤدى إلى تفجير الأوضاع نحو انتفاضات واسعة النطاق تؤدى إلى تغيير فى تركيبة السلطة الحاكمة المشكلة من عديد الأطراف وعلى رأسها سوناطراك والجيش وبقايا عناصر من حزب بيروقراطية الدولة كانت تنتمى تاريخياً إلى قلب حزب جبهة التحرير الوطنى الجزائرى بعد انقلاباته الداخلية العديدة.
2- من هنا لجوء الحكومة الجزائرية إلى دعم العقيد القذافى نسبياً فى المراحل الأولى للعملية الثورية وتحفظها على ما يتم فى ليبيا على أيدى «الثوار»، والأهم قوات الناتو. من هنا استقبلت بعض أبناء عائلة العقيد الليبى معمر القذافى. وخشيت الجزائر من بعض الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية التى شاركت الناتو وعلى رأسها الجماعة الإسلامية المقاتلة، وعناصر تنتمى إلى السلفية الجهادية، والقاعدة فى المغرب العربى، وعناصر إخوانية فى تركيبة المجلس الوطنى الانتقالى.
3- من هنا يمكن فهم الموقف الجزائرى داخلياً حول بعض الإصلاحات السياسية الجزئية، وسياسة الرشاوى الاجتماعية داخلياً. من ناحية أخرى التحفظ الواقعى على ما جرى فى تونس، وتراجع السياحة الجزائرية إلى تونس التى شهدت نمواً خلال الأعوام الماضية وصل إلى نسبة 20% فى بعض التقديرات الإعلامية من إجمالى عدد السائحين القادمين إلى تونس.
من هنا يمكن اعتبار الوضع الجيوبوليتيكى للحالة التونسية يقف الآن بين إمكانيات تأثير النفوذ الإقليمى الجزائرى الاقتصادى والسياسى والعسكرى. وبين هشاشة الوضع القبلى المتوتر والنزاعى فى ليبيا، وعدم الحسم الكامل للأوضاع داخلها، ثم تعقيدات عملية بناء مؤسسات وأجهزة الدولة، وخضوع ذلك لتضاغطات ونزاعات القوى القبلية والإسلامية التى شاركت فى عملية إسقاط نظام العقيد معمر القذافى مع قوات الناتو.
أحد مخاطر الوضع الليبى يكمن فى وجود الناتو وتأثيره على الأوضاع السياسية والاقتصادية وترتيبات القوة داخل التركيبة القبلية الليبية وانعكاسات ذلك على الانتفاضة الثورية، وخاصة تأثر الجنوب التونسى بالأوضاع الليبية اقتصادياً، واجتماعياً، وأمنياً.
4- وجود الناتو وتقاسم النفط الليبى بين فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا لا يقتصر فقط على الموارد، وإنما أيضاً على المواقع إذا شئنا استعارة تعبير لمحمد حسنين هيكل - حيث الحضور الأمنى والاستخباراتى والعسكرى سيؤثر على المثال التونسى، والانتفاضة وتطورها وحصرها فى نطاق جزئى وإصلاحى يتواءم مع مصالح الناتو والدور المؤثر والفاعل للولايات المتحدة فى المنطقة من ناحية أخرى، يبدو أيضاً دور الفاعل الإسلامى السياسى التونسى وعلى رأسه حزب النهضة مع تغير نسبى فى قاعدته الاجتماعية والأيديولوجية من خلال غلوّ وتطرف قاعدته التنظيمية التى تشكلت فى غياب قادته فى المنفى والقوى السلفية، وحزب التحرير الإسلامى التونسى، واحداً من الهموم السياسية والأمنية للناتو، والولايات المتحدة، والسعى إلى ضرورة ضبط التمدد الإسلامى فى تونس، وليبيا، وذلك حتى لا يؤدى إلى تغيير فى الخريطة الجيو - سياسية للمنطقة. من هنا يبدو أن الجغرافيا السياسية لتونس وليبيا ستؤثر على تطور مسار العمليتين السياسيتين فى كلا البلدين.
5- التركيبة القبلية الليبية، وانتشار السلاح، وتعدد مواقع القوة داخل القوى التى ساعدت حلف الناتو، وعمليات تهريب السلاح عبر الحدود وبين القبائل بالإضافة إلى ترسانة سلاح العقيد معمر القذافى، أصبحت تشكل مصادر خطر وتهديد للأمن التونسى والمصرى فى ضوء ما تم ضبطه من بعض مدافع الكاتيوشا وبعض صواريخ وقواعدها جاءت مهربة من ليبيا إلى داخل مصر، بالإضافة إلى وجود الناتو على حدود مصر وتونس وهو ما قد يؤدى إلى التأثير السلبى على مسار العملية الثورية فى كلا البلدين على النحو الذى سنوضحه فى الحلقة التالية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.