الأهرام: 18/12/2008 ولدتنا امهاتنا احرارا! مقولة مجازية شائعة قيلت وتستعاد من موروث لغة مقاومة الاستبداد لفظيا, ولكن السؤال الذي نطرحه بعد ستين عاما علي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, هل ولدنا احرارا بالفعل؟ أم ولدنا عبيدا لموروثات من القيم ولغة الوصاية وثقافة انتهاك الحريات الشخصية في غالب تفاصيل حياتنا؟ هل ولدنا كي نتحول إلي رهائن الدولة, وثقافة انتهاك الحريات في غالب تفاصيل حياتنا؟ هل ولدناكي نتحول إلي رهائن الدولة وثقافة الاجماع والقطيع, ومنطق الاتباع والنقل؟ هل أنت حر أم عبد؟ هل تشعر بوجودك الحر في الوسط الأسري, أو في إطار علاقات العائلة, والقبيلة والجيرة, والزمالة؟. هل تشعر بالحق في الخصوصية في المنزل, وفي تفاصيل حياتك؟ هل تمتلك القدرة علي الاختيار الحر؟ غالبا الإجابة ستكون تعبيرا عن الوعي المستلب أو الغائب لدي غالب الجمهور, وقد يعتقد كثر أو بعض منهم أنهم أفراد! أحرار! وذوو ارادات مستقلة فعلا!, ولكن القلة ستعترف أمام مرايا الذات أنهم بلا حرية حقيقية, أو إرادة فردية حرة, وأنهم ضائعون في متاهات ثقافة الرعب من الحرية, والخوف من المسئولية معا!! تتراجع مستويات التمتع بالحريات والحقوق العامة والشخصية, ويتدهور احترام جوهر الشرط والوجود الانساني من الدولة, والأخطر المجتمع وجماعاته, بينما تبدو أجيال حقوق الانسان علامة علي عصرنا وسياساته. ركزت خطابات الانتهاكات الحقوقية علي مسئولية الدولة أساسيا, وعلي الحقوق الواردة بالإعلان العالمي, بينما الأمور باتت أكثر تعقيدا من ذي قبل. لم تعد حقوق الانسان مقصورة علي الإعلان العالمي زائع الصيت, ولا الحقوق السياسية والاجتماعية, والاقتصادية, وإنما أصبحت منظومات وأجيالا, وباتت بمثابة أيديولوجيا, وفلسفة وثقافة معولمة, وسياسات للتدخل الانساني وأحيانا قناع نفاقي لاضفاء مشروعية علي الاحتلال والعدوان الأمريكي والغربي, وازدواج المعايير..إلخ! معايير وحقوق كونية تدور حول مركزية الإنسان ووجوده الحر والفعال وحقوقه المتكاملة علي اختلافها التي لا تقبل التجزئة أو الانتقائية سواء إزاء الدولة, أو سلطاتها وأجهزتها, أو إزاء المجتمع وتنظيماته, وروابطه الأولية, أو الأكثر تعقيدا. مرت ستون عاما علي الإعلان العالمي ولا نزال نعاني كأشخاص, أو جماعات من سحق الحريات والإرادة الفردية, ومع ذلك, تطورت الأوضاع الحقوقية نسبيا عن ذي قبل وباتت لغة وإصطلاحات اجيال حقوق الإنسان الثلاثة وما بعدها جزءا من اللغة الكونية الجديدة المتعدية للغات العالم علي اختلافها, ومخترقة قلب الخطابات السياسية والدبلوماسية والدينية, وباتت علامة علي الحداثة, وما بعدها ورمزا علي المفردات القيم التي يتم تداولها واستهلاكها في السوق العولمية للغة والقيم. شاع خطاب حقوق الإنسان بحيث تجده حاضرا في لغة الطغاة والديكتاتوريين وحراس ثقافة القمع تحت شعارات الخصوصية والأصالة والهويات الأحادية والسرمدية التي اعطيت لمرة واحدة وللأبد! لم تعد نظم الحكم التسلطية, وأجهزة القمع وإشاعة الخوف والرعب تملك سوي الخطابات الاعتذارية أو التبريرية إزاء انتهاكات الحقوق والحريات علي اختلافها, حتي لا تتعرض لبعض الجزاءات الدولية, أو تشويه صورتها, ومن ثم التأثير علي مكانتها الدولية. مازال الخطاب الحقوقي يدور أساسا حول مركزية انتهاكات الدول والنظم التسلطية, أو الديمقراطية للحقوق أيا كانت, تركيز خطاب النشطاء علي انتهاكات الدول وأجهزتها يرجع لعدد من الأسباب نذكر بعضها علي سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلي: 1 هيمنة النظم التسلطية وثقافتها السياسية القمعية واستمرارية شيوع انتهاكاتها للحقوق السياسية والاقتصادية والدينية, والثقافية والعرقية, وذلك لحماية فسادها السياسي. 2 غلبة دور النشطاء من ذوي الانتماءات الأيديولوجية الشعبوية, وجرحي الحياة السياسية السرية, علي عمل نشطاء حقوق الانسان كمنظومات وثقافة وقيم تدور حول مركزية ومطلق الوجود الحر للإنسان وغالبا ما يميل هؤلاء إلي إسناد جميع الانتهاكات إلي السلطة السياسية وأجهزتها. 3 الميل للخلط بين مطالب تغيير السلطة السياسية, وبين منظومة حقوق الانسان واستخدامها كجزء من الخطاب الهجائي لها, من قبل بعض النشطاء. أن غالب خطابات رصد ونقد الانتهاكات, باتت تفتقر إلي عمق المعالجة السوسيو ثقافية, والسياسية, وترمي لايجاد تبريرات لإنفاق التمويل الدولي في غير مواضعه, وستر بعض من الفساد داخل بعض المنظمات. وثمة ممارسات تفتقر للمعايير والقواعد الديمقراطية في بعض المنظمات الدفاعية, سواء استمرارية بعضهم علي رأسها لمدد طويلة, أو شيوع الطابع الشخصاني, والبطريركي في إدارة بعضها الآخر!. الوجه الآخر للقمع السلطوي للانسان العربي يتمثل في منظومات القمع المجتمعي علي اختلافها, بحيث يولد الفرد حرا علي نحو مجازي, وتتحول الحريات والحقوق والمعتقدات إلي لغة مجازات ورغبات وأمنيات فكرية لا ظل لها في حياة الناس!. هل أنت حر فعلا؟ هل تمتلك إرادتك الحرة؟ هل يحترم الآخرون خصوصيتك. وقراراتك, وضميرك ومعتقداتك وخياراتك الحرة؟. هل تمتلك حرية نقد ورفض آراء الأب والأم والمدرس والأستاذ في الجامعة, أو رئيسك في العمل أو رئيس الحزب أو الحكومة؟...الخ! الانسان في مجتمعنا يعاني من ثقافة انتهاك واجتياح لخصوصياته, وإرادته وحقوقه حيث يدور في إطار دوائر من التلصص والتنصت, والاغتياب, والنقل و الاتباع والأمر والنهي, والحفظ والتلاوة والتكرار لمقولات تمييزية علي أساس الجنس, أو الدين أو المذهب, أو العرق, وحيث يشيع الخوف وعدم التسامح, واحتقار المرأة الأضعف اجتماعيا وسياسيا وتعليميا!. إن إعاقات حقوق وحريات المصري عديدة ومركبة وذات جذور ثقافية وقيمية وسياسية ودينية, تستند اليها ثقافة الدولة التسلطية, وتتغذي عليها, بل تمثل وجهها الآخر الأكثر سوداوية وقبحا, ولا تزال تأسر حاضرنا ومستقبلنا في عالم ماضوي لايزال يشل إرادتنا الفردية والجماعية عن الوجود والفعل الحر والمبدع لحياتنا وعالمنا!. ان ثقافة انتهاك الحرية والوجود الحر الفعال للانسان, تبدو أكثر رسوخا في تاريخنا وموروثاتنا وتقاليدنا, خذ مثلا انتهاك حقوق المرأة, والتحرش والعنف الجنسي, وقمعها باسم سلطة الذكورة في الأسرة والعائلة والعمل والسياسة, ومجموعة من القيم والعادات والتقاليد المحافظة, التي يحاول بعضهم تبريرها باسم تأويلات دينية وضعية. خذ أيضا عمليات قمع حرية التدين والاعتقاد الديني والمذهبي باسم بعض التفسيرات الفقهية المحافظة التي تحاول احتكار النطق باسم صحيح الدين والمذهب أيا كان. خذ أيضا ضرب وتعذيب الأطفال في الأسرة والعائلة والمدرسة والشارع باسم التربية والتعليم والأخطر إسناد ذلك إلي القيم الدينية الإسلامية والمسيحية!. خذ الاعتداءات البدنية والمعنوية, والجنسية علي أطفال الشوارع, التي أصبحت عادية وطبيعية ولا تستثير أحدا! الأخطر أنها تعبير عن نزعة التلقين والتكرار للمقولات والأمثولات الشعبية التمييزية إزاء الأطفال باسم الأصالة والدين والمذهب, واعتبار ما يخالفها رجسا من عمل الشيطان, أو من قبيل الخروج علي التقاليد والجماعة والأمة والوطن.. الخ. ان ثقافة تحويل الانسان إلي مجرد رقم بلا هوية فردية أو ملامح أو وجه لصالح المقولات الكبري التي تمدح الذات وأساطيرها ومتخيلاتها, هي إنتاج لثقافة الخضوع والانصياع والخنوع, وهي وجه آخر لهيمنة قيم الجبر والانقياد والمسايرة للحاكم وذوي السطوة والمكانة والنفوذ السياسي والديني والمذهبي والمالي..الخ. بعضهم يريدون المصري إنسانا مطيعا بلا إرادة حرة إلا فيما هو مطلوب منه انجازه فقط, لا فيما يتصل بحقوقه وحرياته. ومن ثم نستطيع رصد التواطؤات المريبة بين الجماعة الأسرة, والعائلة, والعشيرة, والمهنة, والديانة والمذهب والعرق والمنطقة وبين السلطة السياسية القمعية, وبين ثقافة الاستبداد السياسي, والمسايرة والنفاق والخضوع الاجتماعي. غالب أنظمة التنشئة السياسية, والاجتماعية في بلادنا تكرس ثقافة القطيع, وانتهاك الوجود الحر والفعال للانسان, ومن ثم تشكل البنية الأساسية للقهر وحراسة التخلف, وانتهاك حقوق الانسان, وإعاقة ميلاد الفرد والفردية, ونشر الديمقراطية. إنها ثقافة الرعب من الحرية وا أسفاه!!.