بقلم : المستشار د . محمد الدمرداش عشنا طوال الأسبوع الماضي مشهدا لميدان التحرير يكاد يكون نسخة مكررة لما عايشناه في شهر يناير الماضي، وطوال الوقت كانت تنهال الرسائل التي تنعي إلينا إما سقوط ضحايا في سوريا أو سقوط شهداء في التحرير وشاهدنا عدوان رجال الامن علي المتظاهرين والمعتصمين سواء في ميدان التحرير أو الشوارع المحيطة به، وكانت النتيجة أن ما شاهدناه سرب إلينا جميعا شعورا بالغضب الشديد حينا وبالمهانة والمذلة أحيانا، لأننا ما تصورنا أن تمر عشرة أشهر علي الثورة ضد المخلوع، ثم نجد أنفسنا نعايش في لحظة من الزمن قمع نظامه وجلد ظهورنا بذات السوط وإن اختلف الجلاد، ولابد أن شعورا عميقا بالمرارة والحسرة قد اجتاح كيانك وزلزل أركان قلبك وأنت تري زهرة شباب الوطن يفضون الي بارئهم بالعشرات وجثامينهم الطاهرة تلقي بجوار القمامة، ولا ريب أن العين طفقت بالدموع وأنت تنظر إلي شباب يجودون بأرواحهم الطاهرة في مشاهد تنقلها الكاميرات لتظل محفورة بمرارة العلقم وصفع الهزيمة في القلوب أضعاف ما رأينا في زمن المخلوع، والذي يزيدك غماً وكآبة أن كل ذلك يتم علي يد من كنا بالأمس القريب نهتف بحياتهم ونرفعهم فوق رءوسنا ونتغني بوطنيتهم التي احتضنت الثورة.. والأنكي فزعا ورعبا أن كل هذا يجري علي أرض مصر وهي تتأهب لخوض غمار انتخابات قُصد منها أن تفرز مجلسا يرسم الأمل لمصر المستقبل. والمريب هو تتابع الأحداث وتوالي الصدمات المفجعة في الشهر الأخير من ماسبيرو التي استشهد فيها نحو 25 شخصا ومازلنا نضرب الودع بحثا عن قاتلهم، وبعدها يدفع المشهد السياسي للانشغال بوثيقة السلمي التي لا أصفها إلا بالوثيقة الفتنة في توقيتها ومضمونها المشبوه. ثم تأتي أحداث التحرير الأخيرة والقوة المفرطة غير المبررة أو المقبولة في التعامل مع صفوة شباب مصر. وكل هذا يحملنا علي التساؤل: لماذا اختيار هذا التوقيت تحديدا لتفجير المشهد السياسي ونحن علي أعتاب انتخابات برلمانية كان يجب أن تكون عرسا ديمقراطيا نبدأ من خلاله أولي خطوات انتقال السلطة من المجلس العسكري إلي سلطة مدنية منتخبة (هي السلطة التشريعية والرقابية)؟ ولابد بداية أن نعترف جميعا بأننا غرقنا بإصرار مدهش ومن عشية الاستفتاء الدستوري لا أستثني أحدا في قسمة البلد إلي جبهتين: الإسلاميون في جانب، والعلمانيون والليبراليون في جانب آخر. وتلك قسمة ضيزي وبالغة الخطورة وكان خطؤها البين في تبنيها خطاب النخب وبعض المثقفين الذين ينتمون إلي أجيال ظلت تصطرع في الساحة السياسية المصرية طوال العقود الماضية. وهو صراع لم تحسمه مصر عبر قرن مضي، علي نحو ما ألفنا سجالات نخبة المثقفين في القرن الماضي، فإذا ما قلبنا فيما سطره طه حسين والعقاد وعلي عبدالرازق وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وسلامة موسي ويحيي حقي وغيرهم، فسنكتشف أننا نعيد إنتاج ما قتلوه بحثا، ولكن بصورة أشد بداوة. وهؤلاء صبغوا الشارع المصري بخلافاتهم الموروثة وانساق وراءهم خلق كثير، وكل ذلك علي النقيض تماما من روح ثورة 25 من يناير، التي صهرت الجميع في بوتقة الولاء لتراب هذا الوطن.. فالمشهد الآن يتفق مع العقلاء وكل من عنده قلب شفيق علي هذا الوطن علي اختلافه جذريا عنه قبل 25 من يناير، فقد وحدتنا كراهية المخلوع ونظامه علي مدي ثمانية عشر يوما، وما إن أزحناه حتي فرغنا إلي حروبنا الصغيرة، وتبدت سوءاتنا علي نحو فاضح، وانفجرت شرايين الغضب الأعمي والتعصب الفاضح في كل اتجاه، حتي تحولت مباريات كرة القدم من فرصة للمتعة والاستجمام، إلي معارك بالطوب والعصي والشماريخ، وسيطر حوار الرصاص علي سجالاتنا اليومية، وصار سلاحا جاهزا في كل خناقة أو مظاهرة أو اعتصام. ويبقي لزاما علي كل غيور محب لهذا الوطن أن يدرك بأقل البصيرة أن هناك مظاهر كثيرة تدعو إلي القلق علي مستقبل الثورة وتجعلنا نتساءل: هل بدأت عقارب الساعة تعود إلي الوراء؟ هل بدأ ظننا بأن المجلس العسكري يمكن الوثوق به لاستكمال مسيرة الثورة يتبدد وثقتنا به تذهب أدراج الرياح؟ هل سنكون مضطرين إلي تصديق الإشاعات والهمسات عن أن المجلس العسكري اضطر لمجاراة الثورة في بداياتها لأن طوفان الثورة كان لا يمكن الوقوف في وجهه، ثم بدأ خطوات الرجوع للوراء في محاولة إعادة إنتاج الماضي بعد أن تم له استيعاب الثورة وإطفاء جذوتها، وبعد أن استعر الخلاف بين ثوار الأمس فصاروا فرقاء اليوم وخصماء الغد؟ طبيعي أن عودتنا إلي النظام الذميم بتطبيق أحكام الطوارئ وفتح الباب علي مصراعيه للمحاكمات العسكرية للمدنيين، ورقابة الفضائيات والصحف، ثم ما نشهده من ممارسات التعذيب الكريهة علي يد ضباط النظام، وما نجده من أكابر مجرمي الوطني المنحل وأركان حكمه الفاسد الذين يصولون ويجولون في المعترك الانتخابي البرلماني ومن بعده الرئاسي كأنهم ملائكة مكرمون أو أنبياء مطهرون وهم الذين قامت الثورة في وجههم وهبت جذوتها لتقتلع فسادهم الذي استباح مصر عقودا طويلة وهم الذين كانوا أولي وأحري بالمحاكمات العسكرية جزاء وفاقا لما أفسدوه ، ثم يأتي صدور قانون العزل السياسي مشوها واهنا بل لنقل صادقين ميتاً ليحتاج تطبيقه علي الأقل شهوراً بل سنوات يكونون قد عادوا وتمكنوا من زمام البلاد وقادوا أعنة الرقاب لمزيد من الفساد والإفساد.. كل هذا يجعلنا أمام منعطف تاريخي خطير قد تفقد فيه مصر كل شيء، فما شهدته مصر طوال الأسبوع الماضي ينذر بالخطر، أيما خطر، ويفتح الباب للتخوف من مستقبل مغلف بالقلق وعدم اليقين لدي المتفائلين، وشديد الظلمة لدي الواقعيين، ويقيني أن المجلس العسكري يدرك كل هذا وغيره تمام الإدراك بل يعرف أطراف المؤامرة، لكن ما يثير العجب هو أنه فيما يبدو قد نذر للرحمن صوما، فلا يريد أن يتكلم ويفصح عن حقيقة ما يحدث، وكأن هذا التكتم وتغييب المواطن المصري قد أصبح السمة الأساسية التي يتميز بها القادة المصريون . ثم بعد أن تشتعل الأمور ويتوالي سقوط الشهداء والجرحي ينطق المشير ولكن نطق شبيها بمنطق المخلوع في الاستجابة المتأخرة للمطالب المشروعة فيأتي بآخر الجهد في أن يقيل وزارة شرف ويكلف الدكتور الجنزوري ولا خلاف أن للجنزوري قدره واحترامه ولكن طرحه في ظل اشتعال التحرير لم يكن بحال الخيار المقبول من قطاع عريض من الشارع ، كما أن المشير في خطابه الذي استغرق ثلاث دقائق ألقي بقنبلة كفتن الليل المظلم حين عرض أن يعود الجيش الي ثكناته بطريق الاستفتاء الشعبي، وكأنه استحضر روح عمرو بن العاص حين ألقي بقنبلة رفع المصاحف حين رأي قرب انتصار جيش الإمام علي كرم الله وجهه علي معاوية وقال في حيلته الجهنمية: (ألق إلي القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا) وهذا هو حال الاستفتاء الذي يعرضه المشير ونحن علي أعتاب الانتخابات البرلمانية بعد ساعات. و رغم كل ما سبق لا نزال يحدونا الأمل في أن يستجيب المجلس العسكري لمطالبنا المشروعة ويعود لانحيازه الكامل إلي الثورة التي تعهد بإنفاذ مطالبها وأولها أن يقدم للمحاكمة الجادة العادلة كل من تلوثت يداه بدماء الأطهار من أبناء مصر ويسرع الخطي حثيثا في نقل السلطة إلي المدنيين كما تعهد منذ اليوم الأول، لكي تعود معادلة الثورة المصرية المجيدة إلي نموذجها الفريد: شعب مصر يريد وجيشها يستجيب.