لو أن اللواء حبيب العادلي لايزال في منصبه وزيرا للداخلية، لما فعل أكثر مما فعله وزير داخلية 'الثورة' مع المتظاهرين خلال اليومين الماضيين. ولو أن حكومة الدكتور نظيف مازالت في السلطة لما فعلت غير الذي فعله المجلس العسكري في تعامله مع المشهد. ولو أن أنس الفقي ظل وزيرا للإعلام لكانت توجيهاته للصحف القومية مطابقة لما عبرت عنه تلك الصحف التي صدرت أمس، ولما اختلف بث قنوات التليفزيون الحكومي الذي ظلت مهمته محصورة في تبرير قرارات السلطة والتستر علي عوراتها. لقد ظلت بعض القنوات الخاصة تبث أحداث ميدان التحرير حتي فجر أمس، الأمر الذي أتاح لنا أن نري صورا تكاد تكون نسخة مما شاهدناه في شهر يناير الماضي، وطول نهاري السبت والأحد كانت الرسائل الهاتفية وتعلقيات مواقع التواصل الاجتماعي تنقل تفاصيل عدوان رجال الأمن المركزي علي المتظاهرين والمعتصمين سواء في ميدان التحرير أو الشوارع المحيطة به، وكانت النتيجة أن ما شاهدناه سرب إلينا شعورا بالغضب حينا وبالمهانة أحيانا، حيث ما تصورنا أن تمر ثمانية أشهر علي الثورة ضد نظام مبارك، ثم نجد أنفسنا في لحظة من الزمن نواجه نفس القمع ونسمع نفس السباب الذي قامت الثورة للتخلص منه وطي صفحته. لذلك فإنني لم أستغرب، وإن انتابني شعور عميق بالمرارة والحسرة، حين سمعت تسجيلا متداولا ظهر فيه اللواء عمر سليمان في صورته الشهيرة التي قرأ فيها خطاب التنحية، لكنه أنبأنا بأن المجلس العسكري قرر التنحي عن السلطة وأنه سلمها إلي السيد حسني مبارك! إلي هذا الحد ذهبت التعليقات وشوهت صورة الثورة وساءت سمعة المجلس العسكري، الذي ينبغي أن نعترف بأن رصيده لدي الرأي العام في تراجع مستمر، وكلما طالت مدة بقائه في السلطة ازدادت أخطاؤه وانفض الناس من حوله، حتي أولئك الذين دافعوا عنه ووقفوا إلي جواره طول الوقت، وقد كنت واحدا منهم، لكني لا أخفي شعورا بالإحباط والحيرة، أسهمت فيه الممارسات غير المفهومة التي يصعب الدفاع عنها. لن أتحدث عن حادثة ماسبيرو التي قتل فيها نحو 25 شخصا، ومازلنا حتي الآن لم نعرف من هو الطرف الثالث الذي تدخل لإطلاق النار وإثارة الفتنة، الأمر الذي ظل لغزا يفتح الباب لإساءة الظن، خصوصا أن جهدا كبيرا بذل لتبرئة الشرطة العسكرية وإثبات أن أفرادها لم يكونوا مسلحين، لكننا لم نلمس جهدا في الإثبات يعادل ما بذل للنفي. ومازلت غير قادر علي فهم إجراءات أخري تم فيها تلفيق التهم لعدد من الشبان الوطنيين والإصرار علي إحالتهم للقضاء العسكري وتمديد احتجازهم بغير مبرر. كما أنني لم أفهم ذلك التدليل المستغرب لرموز النظام السابق، في الوقت الذي يعامل فيه شباب الثورة بقسوة تبعث علي الدهشة. أما ما ضاعف من الدهشة والاستغراب فهو ذلك القمع الذي تعرض له عشرات المعتصمين السلميين الذين بقوا في الميدان بعد انتهاء حشود يوم الجمعة. ذلك أن الميدان كان قد تم تنظيفه صباح ذلك اليوم بواسطة بلدية العاصمة في وجود خمس أو ست خيام، وكان يمكن أن تعود الحياة فيه إلي طبيعتها دون أن تعرقل تلك الخيام حركة المرور. لكن المعتصمين فوجئوا في العاشرة صباحا تقريبا بهجوم مباغت من قوات الأمن المركزي التي انقضت علي الخيام وساكنيها فأزالت الأولي وانهال أفرادها علي المعتصمين بالصواعق الكهربائية وبالضرب والسحل والسب. بعد ذلك انسحبت القوات من الميدان بعد إخلائه. شهود العيان الذين سألتهم اتفقوا علي أن المعتصمين الذين طردوا من ميدان التحرير عادوا إليه مرة أخري مسكونين بالغضب ومشحونين بالثورة علي الذين أغاروا عليهم. وهم في هذه الحالة مرت بالميدان سيارة ترحيلات فارغة تابعة للشرطة، فتصدوا لها وقاموا بإحراقها. وحينذاك عادت قوات الأمن المركزي مرة أخري بإعداد كثيفة وقامت بالتصدي للغاضبين الذين تزايدت أعدادهم بعد انتشار أنباء القمع الذي تعرضوا له. فالذين كانوا عشرات أصبحوا مئات عند الظهيرة، وتحولوا إلي ألوف في المساء، وهؤلاء اشبتكوا مع قوات الأمن المركزي التي لم تتردد في استعمال القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي وطلقات الخرطوش. وسقط من سقط من الجرحي وقتل واحد في القاهرة وسمعت عن اثنين في الإسكندرية. وظلت قوات الأمن المكزي مهتمة بأمرين أولهما تأمين مقر وزارة الداخلية والثاني ملاحقة المتظاهرين وتشتيتهم. ظهر أمس تلقيت نداء علي هاتفي المحمول يدعو 'شرفاء الوطن' للتوجه إلي ميدان التحرير لمواصلة الثورة، الأمر الذي ينبئ بأن سلوك الأمن المركزي مس جرحا عميقا لدي الناس وجدد شعورهم بالإهانة الذي كان أحد أسباب التحاقهم بالثورة. الوقائع تروي بعدة طرق، وليست أمامنا فرصة للتثبت من شيء، أو للتعرف علي الحقيقة ومن ثم محاسبة المسئول الذي أشعل الحريق وأججه، لكن الذي نعرفه أن أحدا لم يتوقع أن يحدث ذلك كله بعد مضي ثمانية أشهر علي الثورة، وأن المجلس العسكري بدأ حاميا للثورة ثم أصبح عبئا عليها.