لا شك فى أن ثمّة إجراءات كثيرة قامت بها الحكومة والبنك المركزى على مدار العام ونصف العام الماضي، رغبة فى إنعاش الاقتصاد وإخراجه من عثرته.. وقد بدأت مؤشرات إيجابية تفتح أبواب الأمل لحدوث التحسّن المطلوب والنمو الاقتصادى المستهدف.. لكن الأهم من الإجراءات التى تم اتخاذها تلك التى تخطط الحكومة لاتخاذها فى الفترة المقبلة لإتمام الإصلاح، ومن هذا المنطلق كان من الضرورى الوقوف على أهم القرارات المرتقبة لإتمام مسيرة الإصلاح وذلك عبر عدد من الحوارات مع رجال الأعمال والمصرفيين ومسئولى الحكومة والبرلمان.. ونبدأ هذه الحوارات بحوار مع الخبير المصرفى صاحب الخبرة الطويلة عمرو طنطاوي، العضو المنتدب لبنك مصر إيران للتنمية. ويرى «طنطاوى» أن الفترة المقبلة تقتضى قيام أجهزة الدولة بعدد من الإجراءات المهمة وعلى رأسها إطلاق صناديق متخصصة لإدارة وتسويق وتمويل المشروعات الصغيرة، إلى جانب إسراع الحكومة فى إلغاء ما تبقى من دعم على الطاقة.. وفيما يلى تفاصيل الحوار: ■ بداية كيف ترى الأوضاع بعد نحو عام ونصف العام من انطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى؟ - بالطبع كان للإجراءات التى تم اتخاذها فى إطار برنامج الإصلاح الاقتصادى تأثيرات كبيرة على الاقتصاد، وقد بدأت مؤشرات كثيرة فى الارتفاع تدليلا على أننا نسير فى الطريق الصحيح... إلا أن الأمر المهم هو استمرار الإصلاح الاقتصادي، فلا يمكن أن نقول عند نقطة معينة إن برنامج الإصلاح الاقتصادى قد انتهى، حيث يتطلب الإصلاح الحقيقى الاستمرار فى تحسين وتكييف الإجراءات بما يتناسب مع الظروف والمستهدفات بشكل دائم. ■ لكن هل تعتقد أن إدارة الدولة اختارت الوقت المناسب لتنفيذ إجراءات الإصلاح الاقتصادى أم تأخرت كما يردد البعض؟ - هنا لا بد من الإشارة إلى أن الإدارات السابقة للبلاد فى سنوات سابقة وقبل ثورة 25 يناير، كانت تدير الدولة والاقتصاد بالمسكنات، بينما كانت المشكلات تتفاقم... وبعد 25 يناير كانت الاضطرابات وحالة عدم الاستقرارين السياسى والاقتصادى أسباب تحول دون تنفيذ برنامج إصلاح جذرية، فقد كان هناك ارتخاء مجتمعى، ولم تكن هناك فرص حقيقة لذلك، وقد تبع هذه المرحلة الاتجاه نحو خلق نوع من الاستقرارين السياسى والاقتصادى وأيضًا كانت تستخدم المسكنات، إلى أن تهيأ المناخ والظروف وأصبح فى مقدور الدولة اتخاذ الإجراءات الجذرية المناسبة وعلى رأسها تحرير سعر الصرف وإقرار قانون الاستثمار والبدء فى تقليص دعم الطاقة، والذى لا بد أن يُلغى تمامًا فى الفترة المقبلة لأنه يلتهم القيمة الأكبر من الإنفاق فى الموازنة العامة للدولة. ■ هل كان من الممكن تأجيل بعض القرارات مثل تحرير سعر الصرف؟ - على الإطلاق... فقد كان تحرير سعر الصرف فى نهاية 2016 أمرًا لا يمكن تأجيله، حيث كانت الدولة على شفا أزمة كبيرة... فالاحتياطى النقدى كان على حد الخطر، والاستثمار الأجنبى كان شبه متوقف، وتحويلات المصريين فى الخارج كانت تذهب إلى السوق السوداء، وأصبح وجود سعرين للصرف مشكلة كبيرة تحول دون أى تحرك اقتصادى.. كما أن الوضع كان يحول دون الحصول على أيّ مساعدات جديدة من الخارج أو تمويلات، فبعد 25 يناير قدمت الدول الصديقة مساندات لمصر إلا أن تراجع أسعار النفط عالميًا جعل من الصعوبة الحصول على مزيد من المساندات، يأتى ذلك فى ظل زيادة احتياجاتنا كدولة من النقد الأجنبى لاستيراد السلع الأساسية للمواطن والمصانع، وعليه فلم يكن هناك مفر من تحرير سعر الصرف، لإصلاح كل هذه التشوهات. وما أود التأكيد عليه هنا أن لجوءنا إلى صندوق النقد لم يكن «فنطازيّا».. فقرض الصندوق كان شهادة على أننا بدأنا السير فى الطريق الصحيح للإصلاح الاقتصادي، كما ساند فى توفير العملة للدولة لمواجهة الاحتياجات المتزايدة، والاقتراض من الخارج بصفة عامة غير مستحب.. لكن الظروف هى التى دفعتنا لذلك وطالما نسير فى الطريق الصحيح فقطعًا سنسدد هذه الديون بكفاءة عالية. ■ ما توقعاتك لسعر الصرف فى الفترة المقبلة؟ - أتوقع أن يشهد الجنيه تحسنًا ملحوظًا بنهاية العام الجاري، حيث تتزايد تدفقات النقد الأجنبى من جميع المصادر، من سياحة إلى استثمار أجنبى وصادرات وقناة السويس، أتوقع أننا قادرون خلال الفترة المقبلة وعلى المدى المتوسط زيادة عوائد السياحة إلى نحو 20 مليار دولار والاستثمار الأجنبى المباشر يمكن أن يصل إلى هذا المستوى، وذلك مقارنة بمستويات كانت فى حدود 13 أو 14 مليار دولار سنويًا قبل 2011.. الأوضاع تتحسن وجميع القطاعات تتحرك بشكل جيد لا سيما بعد تنفيذ إصلاحات تشريعية أيضًا مثل إقرار قانون الاستثمار الجديد ولائحته التنفيذية وقانون الإفلاس، كما أن سعر الصرف أصبح جاذبًا للاستثمار والسياحة بقوة. ■ هل تعتقد أن أزمة العملة قد انتهت؟ - الذى يمكن إطلاقه على هذه المرحلة أنها مرحلة توازن بين العرض والطلب على العملة بالسوق، حيث ارتفعت تدفقات النقد الأجنبى للجهاز المصرفى بالشكل الذى يمكنها من مواجهة جميع الاحتياجات التمويلية المطلوبة، كما أن أداة الإنتربنك الدولارى ساهمت أيضًا فى خلق هذه الحالة من الاستقرار والاتزان، لكن لا يمكن أن نقول إن أزمة العملة قد انتهت بشكل كامل إلا حينما نكون قادرين على التوقف عن الاقتراض من الخارج أو الحد من الحصول على التمويلات الخارجية، وكذا سداد جزء كبير من ديوننا الخارجية.. هناك التزامات كبيرة.. لكن الأوضاع والتدفقات تتحسن بشكل كبير ومبشّر.. كما أن الإجراءات التى يتم اتخاذها بدأت تثمر فها هو حقل ظهر للغاز يبدأ فى الإنتاج ويوفر الكثير من النقد الأجنبى الذى كان يستخدم فى الاستيراد.. فاتورة الاستيراد بصفة عامة تراجعت بينما تتجه الصادرات للزيادة. ■ تحرص الحكومة بناء على تعليمات الرئيس على تنفيذ مشروعات قومية ضخمة... ما تقييمك لهذه المشروعات ورؤيتك لانعاكاساتها المستقبلية على الاقتصاد؟ - لا يمكن للدولة أن تنفذ برنامج إصلاح اقتصادى طموح دون أن تهيئ البنية التحتية الأساسية التى ستستقبل الاستثمار والسياحة والحركة الاقتصادية بصفة عامة، لذا فكان من الضرورى أن تهيئ الدولة نفسها لتكون قادرة على ترجمة الإجراءات الاصلاحية والقرارات إلى واقع، ومن ثم كان الانطلاق فى المشروعات الكبرى مثل قناة السويس الجديدة ومحور القناة والعاصمة الإدارية الجديدة، والعلمين الجديدة، ومشروعات الطرق المختلفة، كل ذلك يدعم صورة مصر لدى المستثمرين والسياحة، فكيف يمكن لدول ليس لديها ما لدينا من إمكانيات سياحية أن تجتذب أضعاف حصتنا من حركة السياحة؟.. والإجابة هى تهيئة الظروف لإرضاء السائح.. ونحن الآن نقوم بذلك، فالجميع يستهدف إرضاء الزبون والبنوك وأى مشروعات أخرى تقوم على ذلك. كما أن مشروع مثل العاصمة الإدارية الجديدة يعتبر مشروعًا استثماريًا تحقق الدولة عوائد كبيرة منه، فالدولة تطوّر الأراضى وتبيع الأراضى لإقامة المشروعات للشركات بأسعار مناسبة، كما أن مثل هذا المشروع من شأنه أن يحل مشكلة التكدس فى القاهرة.. كما أن العديد من المبانى التاريخية التى يتم استغلالها فى القاهرة للهيئات والوزارات والمصالح الحكومية يمكن استغلالها بالشكل الأمثل عند انتقال هذه الهيئات للعاصمة الإدارية، فمنها ما يمكن أن يتحول إلى فنادق أو غير ذلك من أوجه الاستفادة التى سيكون لها مردود على الاقتصاد. ■ أعتقد أن القطاع العقارى هو أكبر المستفيدين من هذه المشروعات؟ - لا بد أن تعلم أن القطاع العقارى يجر وراءه عشرات القطاعات الأخرى، حيث يخلق فرص عمل كبيرة، وهذا يساهم فى مواجهة البطالة، ويعد إحدى ثمار هذه المشروعات بالنسبة للمواطن.. ■ ما الإجراء الذى تتمنى ألا تتراجع فيه الحكومة أو تتباطأ فى إتمامه؟ - إلغاء دعم الطاقة... هو أمر مهم للغاية.. وأتمنى أن تقوم الحكومة بالإسراع فى إلغائه نهائيًا.. حيث لا منطلق من أن تدعم «خواجة جاى من برّه يومين.. فيحصل على بنزين مدعوم»..لا بد من إلغاء دعم الطاقة نهائيًا.. وتوجيه هذا الدعم لإصلاح القطاعات المهمة والمؤثرة على المواطن بشكل مباشر مثل التعليم والصحة وغيرهما. ■ ألا ترى أنه من الضرورى أن تعزز البنوك من حجم تمويلاتها لمساندة الاقتصاد... فى الوقت الراهن حجم الإقراض للودائع لا يزيد على 45%؟ - قطعًا من الضرورى زيادة هذه النسبة إلى مستويات 60% و65%، فالنسبة الحالية لا تتناسب مع قدرات الجهاز المصرفى، إلا أن هناك عددًا من الأمور فى الوقت الراهن تؤثر على معدلات الإقراض،على رأسها ارتفاع أسعار الفائدة، حيث يفضل المستثمرون والشركات طلب التمويلات عند أسعار فائدة أقل.. لكن فى الوقت نفسه لا يمكن أن نقول إن رفع سعر الفائدة فى الفترة الماضية كان أمرًا خاطئًا حيث كان من الضرورى القيام بذلك لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم، والبنك المركزى هو الأقدر على تحديد الفائدة المناسبة للسوق والظروف الاقتصادية.. ومن المتوقع أن تشهد أسعار الفائدة انخفاضًا فى الفترة المقبلة مع تراجع التضخم إلى مستويات مقبولة. كذلك فإن طرح الحكومة لأذون خزانة بقيم كبيرة وأسعار عائد مناسبة يجعل البنوك تستثمر جزءًا من السيولة المتاحة لديها فى هذه الأدوات، كونها تحقق عوائد مرتفعة وفى الوقت نفسه هى الأقل من حيث المخاطرة.. لكن وبصفة عامة البنوك قادرة على الدخول بقوة لمساندة الاستثمار من خلال ضخ القروض المناسبة، والبنك المركزى يشدد على ذلك ويدعمه بقوة. ■ هل انتهى زمن منح القروض لرجال الأعمال لاسمائهم فقط أو لتوصيات من شخصيات مسئولة مثلًا؟ - انتهى ذلك تمامًا، فمنح القروض حاليًا لا يراعى الاسماء، لكن يراعى الجدارة الائتمانية ودراسات الجدوى، ولا توجد أي إملاءات أو أى شىء يمكن أن يجعل أى بنك يمنح قرضًا لعميل جدارته الائتمانية ضعيفة.. ما أود توضيحه أيضًا أن هناك قواعد صارمة من البنك المركزى لحماية أموال المودعين.. كما أن البنك المركزى أصبح فى الوقت الراهن يتابع ويطّلع على كل وحدات الجهاز المصرفى من خلال تقارير تصل إليه يوميًا.. الجهاز المصرفى فى الوقت الراهن صار أقوى وهناك بنوك مصرية تحصل على أعلى التقييمات فى المنطقة، فالبنك التجارى الدولى مثلا حصل على أفضل بنك خاص فى الأسواق الناشئة وذلك ليس ناتجًا عن عمل البنك وحده، لكن المنظومة كاملة أصبحت ناجحة. ■ كيف ترى مبادرة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتأثيراها على السوق والاقتصاد؟ - بالطبع هى مبادرة مهمة ويستهدف البنك المركزى من ورائها تنشيط عمليات الإقراض فى السوق، وتخطى عقبة ارتفاع الفائدة بالنسبة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، فالمبادرة تغطى المشروعات حتى تلك التى تصل رءوس أموالها مليونى جنيه.. هى مساندة قوية والبنوك بدأت فى تنفيذ المبادرة، لكن من المهم ألا يقتصر الاهتمام بالمشروعات الصغيرة على مبادرة البنك المركزى دون مساندة من الجهات الأخرى. ■ ما الطريقة المثلى لتدعيم المشروعات الصغيرة من وجهة نظرك؟ - لا بد أن تكون هناك صناديق متخصصة، هذه الصناديق تساهم فى تقديم المشورة ودراسات الجدوى وكذلك دراسة السوق واحتياجاته، ولا بد أن تكون البنوك حاضرة بقوة ومساهمة فى هذه الصناديق، لتوفير التمويلات اللازمة، فهذه هى الطريقة المثلى فى وجهة نظرى لإحداث تحرك قوى للمشروعات الصغيرة يعزز من النمو الاقتصادى بالشكل المطلوب. ■ كيف ترى التطور فى وسائل الدفع الإلكترونى.. والعملات الافتراضية مثل البيتكوين؟ - التحوّل إلى الدفع الإلكترونى فى الجهاز المصرفى الآن لم يصبح اختيارًا لكنه ضرورة لمسايرة التقدم التكنولوجى فى الأجهزة المصرفية الكبرى فى العالم.. وتقليص التعامل بالبنكوت أمر مطلوب جدًا ويخدم الاقتصاد.. لكن إذا ما تحدثنا عن عملة «بيتكوين» والعملات الافتراضية فمصيرها إلى زوال لأنها لا تنبنى على أصل أو غطاء ولا أحد حتى الآن يتبنى هذه العملات، فليس هناك بنك مركزى أو دولة أو جهة معروفة تقول إنها تضمن مثل هذه التعاملات.. ومهما كبرت التعاملات بهذه العملات فإنها ستتلاشى وتخلق خسائر ضخمة فى حال إلغاء الموقع الذى يقوم بتشفير هذه العملات. ■ ما أهم الإجراءات التى لا بد من اتخاذها فى الفترة المقبلة لتعظيم نتائج الإصلاح الاقتصادي؟ - فى وجهة نظرى فإن مهمة التوعية هى الأهم فى الفترة الراهنة وكذلك الفترة المقبلة... التوعية بالوضعين الاقتصادى والسياسى للدولة، وضرورة أن يقف الجميع صفًا واحدًا مع أجهزة الدولة من أجل تحقيق النهضة المرجوة.. فدول مثل ماليزيا وكوريا واليابان والصين ليس لدى مواطنيها استعداد لإهدار الوقت وتعطيل العمل، بعكس ما يحدث لدينا.. والدعم للدولة لا يعنى ألّا يكون للنظام معارضوه إلى جانب المؤيدين.. لكن لا بد أن يعمل الجميع فالعمل هو الحل لجميع المشكلات التى نواجهها.. لا بد أن ننظر إلى مستقبل ابنائنا وأحفادنا أيضًا.. كل ما نفعله اليوم سيجنيه أبناؤنا غدًا.. كذلك فإننى أؤكد على ضرورة إطلاق صناديق تتبنى أفكار ومشروعات الشباب وتدعّم من مراكز بحثية بشأن السوق ومتطلباته، وتقوم البنوك بتمويل وتسويق هذه المشروعات لصالح الشباب، فهذا يعزز من التأثيرات الإيجابية لمبادرة البنك المركزى بشأن المشروعات الصغيرة، ويضمن تحقيق نمو اقتصادى حقيقى ومستدام.