استيقظ أهالى منطقة «جربوعة» التابعة لقرية كوم الفرج بمحافظة البحيرة، على خبر وفاة محمد (اسم مستعار) 24 سنة، أثناء محاولته إنقاذ جاره مزارع خمسينى ونجله، واثنين من الدجالين، بعد سقوطهم فى حفرة بعمق 25 مترًا، صنعوها بدأب بحثًا عن الآثار. «محمد» الشاب العشرينى لاقى حتفه مع أربعة أخرين بعد أن كان يحضر لزفافه بعد إسبوع واحد فقط، فتحول العرس لمأتم، وراح ضحية مع الباحثين على الكنز الموعود. تلك الحادثة (وقعت فى البحيرة منذ عدة أسابيع) هى واحدة من آلاف القضايا التى ضبطت خلال قيام أشخاص بالتنقيب عن الآثار، أو بيعها بعد الوصول لها، وكثير ما ينتهى التنقيب بوفاة المنقبين فى الحفر التى صنعوها بحثًا عن «الكنز» كما يسمون. العام الماضى وحده حررت الشرطة 262 قضية آثار موزعة بين قضايا تنقيب، وإتجار، وتهريب، وشروع فى تنقيب، وذلك عبر 137 دائرة قسم فى 25 محافظة، ألقى خلالها القبض على 956 شخصاً، بينما توفى 48 منقباً أثناء الحفر، وأصيب 22 شخصا آخر، فيما كانت عدد القطع الآثرية المضبوطة خلال نفس العام 11 ألفًا و557 قطعة. الملاحقات القانونية لم تردع المنقبين الجدد عن المضى قدمًا فى هذا الطريق، ولم يأبهون بعشرات الأخبار التى تتداولتها وسائل الإعلام عن ضبط أو موت نظرائهم وهم يبحثون عن قطع أثرية «أتية من التاريخ لترسم لهم مستقبلا من الثراء والنعيم» هكذا يفكرون. تكرار تلك الحوادث تنبهت لها «روزاليوسف» وشرعت فى إعداد هذا التحقيق الذى تكشف خلاله أساليب التنقيب عن الآثار وطرق استخراجها، بداية من الاستعانة بخبراء التنقيب (المرشدين أو الدجالين)، وصولا إلى أجهزة الكشف عن الذهب، التى تستورد من الخارج بغرض الكشف عن المياه الجوفية والمعادن. الطريق إلى «الكنز» تتنوع أساليب التنقيب عن الآثار، إما بالحفر وطرق البحث التقليدية، أو عن طريق استخدام أدوات حديثة ومتطورة، منها جهاز الكشف عن الآثار، ويبلغ ثمنه 3 ملايين جنيه. ذلك المبلغ الباهظ يدفع المنقبون اللجوء إلى إستئجاره، والبعض يستعين بخبراء التنقيب العلميين، مثل المرشدين المتخصصين فى الآثار. والبعض الآخر ممن يؤمنون بالخرافات يلجأون إلى مَن يطلق عليهم «مشايخ»، فهؤلاء يقنعون المنقبين أنهم بإمكانهم مساعدتهم فى العثور على الآثار عن طريق «التعاويز» و«حرق البخور» و»الزئبق الأحمر»، من أجل «جلب الجن السفلى الحارس على الآثار» وذلك بحسب اعتقادهم. وتزيد خطورة الأمر مع تقدير الإحصائيات غير الرسمية إلى أن حجم تجارة وتهريب الآثار فى مصر يصل إلى 20 مليار دولار سنوياً. دجل سماسرة التنقيب تمكنت «روزاليوسف» من التواصل مع أولى حلقات مافيا التنقيب العشوائى عن الآثار أسفل المنازل، ويطلق عليه اسم «الخبير» أو «المرشد» أو «السمسار»، فعبر مجموعة «الآثار الفرعونية وأسرار التنقيب بأسوان والأقصر» (هى مجموعة إلكترونية سرية يديرها مجهولون، يتواصل من خلالها راغبو التنقيب عن الاثار مع خبراء وسماسرة التنقيب) بدأ أحدهم بالقول: «إلى الراغبين فى البحث عن الآثار الفرعونية وللتأكد من صحة وجود كنز أثرى من عدمه، فى أى مكان داخل مصر... من الممكن التوصل لمعرفة كيفية البحث عن الآثار، وكيفية المسح لمنطقة بالكامل، واستخراج الكنوز وفك الرموز والشفرات، وتثمين القطع الأثرية فرعونية أو رومانية أو قبطية أو إسلامية، ونساعدك فى الحفر فى الموقع والرسم المساحة». الخبراء الفنيون بأماكن الآثار، يكون لهم نسبة من الكنز الموجود فى المقبرة حال الوصول لها، ربما تتعدى الثلث محتوى المقبرة، وفى كثير من الأحيان يسعون إلى الاستعانة بما يطلق عليهم «شيوخ البحث عن الكنوز والآثار» لمساعدتهم. «روزاليوسف» تواصلت مع «الشيخ عصام» أحد هؤلاء، الذى قال: «لا أشرع فى أى عمل عن التنقيب قبل أن أحصل على 100 ألف جنيه، كى أرشد عن مكان الكنوز والدفائن». أخبرنا «الشيخ عصام» أننا لدينا مكان نشك فى كونه مقبرة اثرية، وبحاجة للتأكد من «وجود الكنز أسفل منزلنا». فى البداية طلب منا: «كتابة سورة الرحمن بزعفران وماء ورد فى ورقه بيضاء، وقراءة سوره الشمس 300 مرة، واستعمال البخور الممزوج بلبان الذكر وكسبرة وجاوى والندى الأسود، وخلال يوم الأحد وساعة القمر، فإن الورقة تطير إلى موضع ذلك الكنز الدفين، وتشير إليه، ويأتى دورى بعدها فى فتح الدفينة وقراءة الطلاسم». «الشيخ عصام» استطرد: «أقوم بقراءة طلسم لفتح المقبرة وأقول احضروا يا زوبعة الرياح ويا صلصلة الأرض كل عامر فى المكان من دهب أو فضة فأظهروها بحق القادر المحيط رب الجيوش الله لا اله الا الله». أكد «عصام» أن كل كنز وله طلسم يستدل به على مكانه، بإشارات وعلامات ورموز لا ينتبه إليها ولا يفهمها العامة، موضحًا: «الكنوز لها سحر ورصد من الجن، يمنع العامة من الوصول لها، ولها رموز كالثعبان، العقرب، المثلث، الصليب، الحفرة (الجرن)، السلحفاة، وتكون محروسة بواسطة الجن أو مطلسمة بالسحر أو كليهما، والدلائل على وجود الكنوز بواسطة السحر وخدامه من الجن ببعض هذه العلامات كالشعور برهبة المكان الذى يدفن فيه الكنز، وبقشعريرة، والشعور بوحشة وأصوات مفزعة، وظهور بعض الزواحف والحشرات كظهور كلب أو ثعبان أسود، وعدم القدرة على التركيز بسبب الصداع ودوار فى الرأس، ولا ينبغى على المنقب أن يبحث بمفرده ولا بد من الاستعانة بنا لفك الطلاسم والسحر أولا، حتى لا يتعرض لأذى من حارس الدفينة». وسائل تنقيب متقدمة ليس كل مَن ينقب عن الآثار يقتنعون بطريقة «الشيخ عصام» الجانحة إلى الخرافة، فهناك منقبون يستخدمون أجهزة حديثة للكشف عن المعادن مخصصة فى الأصل لاستخدامات الجيولوجيين ومهندسى البترول، لكنها أصبحت متداولة فى أيدى المنقبين. تواصلنا مع بعض وسطاء أجهزة التنقيب عن الذهب والكنوز والدفائن، ومنها شركة «فيوتشر تريجرز» العالمية، وتعلن عن جهاز FTG USA». مسئول التسويق بالشركة قال: «إن الجهاز يحدد نوعية الكنز على أفضل وجه، وحجمه، وعمق تواجده، ونوعه، وشكله، كل هذا بدقه عالية قبل استخراجه، فالجهاز يعمل بأنظمة ذى تقنية عالية متعددة الوظائف وسهلة الاستخدام، وتحتوى على نظام الكشف بالتصوير المباشر والاستشعار بعيد المدى سوياً». وتابع مسئول شركة أجهزة التنقيب: «لا داعى للتردد أبدا أعطنا اسم منطقتك وسوف نختار لك الجهاز المناسب فى نفس اللحظة، وفى حال زيارتك إلى موقعنا الالكترونى وتصفحه بشكل جيد؛ تستطيع أيضا اختيار الجهاز المناسب لك، وسوف تستفيد من هذه المعلومات القيمة لتكون متدربًا بشكل جيد فى أعمال الاستكشاف جميعها» مضيفًا: «كذلك نوفر خدمة التوصيل المباشر فى أقصى سرعة ممكنة، وخلال ثلاثة أيام، بل يوجد خصم خاص يصل إلى 70٪ على جميع المنتجات، ويصل عمق الجهاز إلى 1200 متر فى باطن الأرض، ومدى أمامى ألفى متر، والسعر 8500 دولار». شركة أخرى تدعى «ميجا أسكان برو» تروج لجهاز الكشف والتنقيب عن الذهب اسمه «جهاز GPZ7000» الشركة قالت عن الجهاز: «إنه مصمم بأحدث وسائل التكنولوجيا لعام 2017، فهو يمسح ويحلل طبقات التربة بتصوير ثلاثى الابعاد للكشف عن الكنز، مع نظام استكشاف بعيد المدى، فمن خلاله تتمكن من تحقق حلمك واكتشف الكنز مع الجهاز المعجزة» الشركة فى ترويجها للجهاز قالت: «يكشف عن المعادن النفيسة والاحجار الكريمة والالماس من خلال أحدث التكنولوجيا الألمانية، وتصل لعمق 40 مترًا، ومدى أمامى ألفى متر على سطح الارض، وعمل الجهاز بثلاثة أنظمة احترافية... والسعر 9 آلاف دولار». ضعف الرقابة والعقوبة الدكتور عبد الرحيم ريحان، خبير الآثار، فسّر لنا أسباب عمليات التنقيب العشوائى قائلا: «إن زيادة معدلات جرائم التنقيب العشوائى عن الآثار، يعود لقصور قانون حماية الآثار (رقم 117 لسنة 1983 والمعدل بالقانون رقم 3 لسنة 2010) والذى تنص المادة 32 منه على «أن السلطة المختصة بأعمال التنقيب عن الآثار فوق الأرض وتحت الأرض والمياه الداخلية والإقليمية المصرية هى المجلس الأعلى للآثار، ويجوز للمجلس أن يرخص للهيئات العلمية المتخصصة والجامعات الوطنية منها والأجنبية بالبحث عن الآثار أو التنقيب فى مواقع معينة ولفترات محددة، وذلك بعد التحقق من توافر الكفاية العلمية والفنية والمالية والخبرة الآثرية، ويكون لهذه الهيئة حق النشر العلمى فقط للآثار المكتشفة». «ريحان» أضاف: «عقوبات المادة 44 من القانون تنص على أنه يعاقب بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه، ولا تزيد على 100 ألف جنيه كل من قام بأعمال حفر بقصد الحصول على الآثار دون ترخيص أو اشترك فى ذلك، ويعاقب بالسجن المؤبد، والغرامة؛ التى لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه إذا كان الفاعل من العاملين بالمجلس الأعلى للآثار أو من مسئولى أو موظفى أو عمال بعثات الحفائر أو من المقاولين المتعاقدين مع المجلس أو من عمالهم» انتهى نص القانون. «هذا يعنى أننا بحاجة لتشديد عقوبة التنقيب عن الآثار بشكل عشوائى وغير علمى ودون ترخيص من المجلس الأعلى للآثار لتصل للسجن المؤبد والإعدام، ولا بد من وضع الآثار كبند رئيسى ضمن الاتفاقيات الدولية لحماية الملكية الفكرية، هذا ما قاله خبير الاثار. برلمانيون: يجب سنّ تشريعات جديدة فايقة فهيم، عضو مجلس الشعب، قالت إن ترسانة قوانين الآثار التى بدأت منذ 179 عاماً (بمرسوم عام 1835 الذى يحظر التصدير غير المصرح به للآثار خارج مصر) حتى صدور قانون رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته فى 2010، مروراً بعشرات التعديلات القانونية، لم تستطع سد الثغرات التى سمحت بالعبث بالآثار المصرية، سواء بتهريبها أو الإتجار بها أو التنقيب عنها، بسبب ضعف عقوبة تهريب وسرقة الآثار والتنقيب العشوائى عنها، ولا بد من الإسراع فى مناقشة وإقرار القانون الجديد. فيما طالب النائب نادر مصطفى، أمين لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب، بالإسراع بسن القانون لوقف «هوس التنقيب العشوائي» على حد قوله بعد انتشاره بطريقة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، والذى تسبب فى مصرع الكثير من المنقبين، فضلا عن سقوط منازل وعمارات أثناء عملية التنقيب. «مصطفى» تابع: «بعض المواطنين يعتقدون أن التنقيب أمر مباح، وغير إجرامى، وأصبح هو شغلهم الشاغل، بحثًا عن الثراء السريع، دون النظر إلى مصلحة البلد، ولهذا لا بد من تفعيل دور شرطة الآثار فى عملية البحث والتحرى عن المنقبون، والضرب بيد من حديد على يد كل من يشترى الآثار ويهربها للخارج، وأن تتبنى الدولة حملة توعية كبيرة لإطلاع المواطنين على أهمية آثارنا والمحافظ عليها، بدلًا من السعى إلى التنقيب غير الشرعى عن الاثار وتهريبها». النائب على عبد الواحد، تقدم بطلب إحاطة لمجلس الوزراء على ضوء انهيار المساكن الواقعة فى منطقة القلعة، بمدينة دمنهور، بمحافظة البحيرة، بسبب محاولات التنقيب عن الآثار، فالمنطقة التى يقطن بها أكثر من 500 أسرة جميعهم مهددون بالخطر، بسبب تصدع المبانى من التنقيب عن الآثار. الوزارة تعلم دكتور خالد العناني، وزير الآثار، قال فى تصريح له إنّ قانون الآثار رقم 417 لسنة 1983، بحاجة إلى تعديلات، لأنه ينص على عقوبة السجن لمدة تتراوح بين 5 إلى 7 سنوات، والغرامة من 5 آلاف جنيه إلى 7 آلاف جنيه، وهو ما أدى لزيادة معدلات أعمال الحفر والاتجار وتهريب الآثار. وأضاف: «تم تعديل القانون من خلال خبراء الآثار والقانون، وإرساله إلى مجلس الوزراء، لمراجعته قبل مناقشته فى البرلمان خلال الدورة الحالية، وعدل فيه عقوبات التنقيب والاتجار وتهريب الآثار من السجن المشدد إلى المؤبد، وغرامات قد تتخطى «مليون جنيه» حسب الحالة الجنائية، وروجعت التعديلات فى قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، ومررت على وزارة الشئون القانونية، لوقف نزيف الخسائر التى تقدر بمليارات الدولارات وتتكبدها مصر سنويًا». حظر استيراد معدات التنقيب ويعكف مجلس الوزارء على حل مشكلة الاستعانه بمعدات التعدين، لمواجهة التنقيب العشوائى عن خام الذهب، ودعا رئيس الحكومة إلى ضرورة تجريم التنقيب العشوائى وغير القانونى عن الذهب فى خارج إطار المناطق التى تم تخصيصها لهذا الغرض، وذلك لضمان تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، مع الحفاظ على حقوق الأجيال المقبلة، إذ تتضمن الإجراءات المتخذة فى هذا الشأن حظر استيراد أجهزة الكشف عن المعادن وحيازتها إلا بعد الموافقة المسبقة من وزارة البترول والثروة المعدنية، وتغليظ العقوبات من خلال التعديلات التشريعية التى وافق عليها البرلمان مؤخرا. وكشف طارق الملا، وزير البترول، عن وجود لجنة داخل الوزارة مكلفة بإجراء أى تعديلات على قانون التعدين بما يخدم هذه الصناعة المهمة, وأضاف «الملا» أن الوزارة أرسلت إلى وزارة العدل بعض الاقتراحات وطلبت أن يتم صياغة قانون يجرم عملية التنقيب للحد منها نظرا لخطورتها الشديدة على مستقبل الثروة المعدنية خاصة الذهب فى مصر.