«من العبث أن تناقش قوما ليس بينك وبينهم لغة مشتركة»، عبارة قالها الأديب العالمى نجيب محفوظ قبل عقود من الزمن وكأنه كان يعلم أن البعض سيثير أزمات حول أعماله دون أن يقرأ ويعى، فقط لأن مجرد التلفظ على محفوظ مدعاة للشهرة، ليس هذا فحسب بل أن محفوظ قال فيما قال حتى لا يأخذ الأمر أكبر من حجمه إن مثل تلك الإدعاءات كالرنين الأجوف لا يصدر عن إناء ممتلئ، وبسماحة وتعفف واصل محفوظ علوه ونقائه وقال: «لا تخبرونى عمن يكرهنى.. فأنا أريد أن أحب الجميع» وردا على ما يثار حول قانون العقوبات على قانون النشر فليس هناك رد أبلغ مما قاله الأديب العالمى.. «لا قيمة للحياة بلا حرية». لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتعرض لها صاحب نوبل الأديب الراحل نجيب محفوظ، للهجوم بسبب مؤلفاته، فمنذ أن تمت محاولة اغتياله 1995 بحجة أنه أساء للذات الإلهية من خلال روايته أولاد حارتنا، وحتى الآن لم تكف خفافيش الظلام عن مهاجمته، وكان آخرها ما صرح به النائب البرلمانى أبوالمعاطى مصطفى أثناء اجتماع لجنة الشئون الدستورية بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات الخاص بقضايا النشر، والمواد المتعلقة بخدش الحياء العام؛ أن أعمال الأديب العالمى نجيب محفوظ خادشة للحياء، مشيرًا إلى أن روايات «السكرية وقصر الشوق» كان يجب أن تحرك ضدها دعاوى جنائية، رافضًا أى تعديل بهذه المواد.. تصريحات البرلمانى آثارت غضبا واستياء على المستوى الثقافى والشعبى وطالب البعض بضرورة محاسبة هذا النائب. وفى تعليق من الكاتب الروائى «مكاوى سعيد» على تصريحات النائب أبو المعاطى مصطفى، قال لا تنم إلا عن «جهله» ويبحث من وراء هذه التصريحات عن الشهرة وجذب الأنظار له، والدليل على ذلك أنه لا يعرف قيمة نجيب محفوظ الأدبية، فهو من قدم أعمال أدبية تعكس الحياة الاجتماعية فى الأربعينيات والخمسينيات، ولولا رواياته «قصر الشوق والسكرية» وغيرها لم نكن لنعلم أى شىء عن الحياة وقتها، ولا عن التقاليد ولا الصراعات الاجتماعية فى هذا العصر. وشدد سعيد على أن «محفوظ» أحد أعمدة مصر الثقافية، وحصوله على جائزة «نوبل» فى الأدب فخر للمصر والعرب وللدول الأفريقية بأثرها، فهو من صنع قيمة للأدب المصرى من خلال رواياته التى وصلت للعالمية. وطالب سعيد بضرورة معاقبة هذا النائب على تصريحاته لأنها لم تخرج عن إنسان عادى رأيه لا يعنى شىء غير نفسه وبيئته، أما كونه نائب فهذه «كارثة» لأنه يعبر عن مجتمع بأكمله، فهو من يضع التشريعات، فكيف يكون هذا رأيه عن قامة كبيرة مثل نجيب محفوظ، وعدم معاقبته لن يدل إلا على أن العالم أصبح يكتظ «بالجهلة». بدورها، قالت الكاتبة سلوى بكر، إننا فى حاجة إلى تغيير عقلية المجتمع حتى تسهل عملية تغيير القوانين المكبلة للحريات والإبداع، مضيفة أن التفكير الذى يسيطر على المشهد الآن هى بدائى، ومن الصعب التحاور والتفاهم أو التواصل معها، لافتة إلى أن الذى يجرم بعض الأعمال الادبية لنجيب محفوظ لا يستحق الرد. وتأسفت الناقدة «ماجدة موريس» لهذا الكلام الصادر عن عضو برلمانى يمثل المواطنين الذين انتخبوه، وأضافت: «كلامه لا ينم إلا عن شخص لا يعلم أى شىء عن الثقافة المصرية ولا عن نجيب محفوظ، وليس له علاقة بالأدب أو الثقافة أو حتى السياسة، مشددة على أنه لم يقرأ أيا من روايات محفوظ وكون حكمه عليه من خلال مشاهدة أفلامه. ورفضت «موريس» أن يقال مثل هذا الكلام على أحد أعلام الأدب المصرى، والذى بمثابة شرف لأدباء مصر والدول العربية والأفريقية، وتسألت كيف له أن يجتزأ من الروايتين جملة أو اثنين ليبنى عليهم حكمه، فالأصل فى النقد للرواية هو الحكم على السياق الدرامى من الألف للياء لتكوين حكم سليم، وليس اجتزاء جزء منها لبناء حكم عام على كل رواياته، مشددة على أن نجيب محفوظ نفسه أكد أكثر من مرة أن من يرغب فى معرفته والحكم على رواياته عليه بقراءتها وليس مشاهدتها أفلامه. وأضافت أن هذه التصريحات لا تؤكد إلا على شىء واحد فقط وهو أن أغلبية أعضاء مجلس النواب نجحوا بسبب قدرتهم المادية على الصرف على العملية الانتخابية وليس لكونهم هم الأجدر بهذا المنصب التشريعي، مطالبة وزير الثقافة «حلمى النمنم» باتخاذ موقف ضد هذا النائب وضد تصريحاته المسيئة حتى لا يكون رأيه بمثابة «مرض» يستوطن ثقافة مجتمع بأكمله. وأعرب الناقد الأدبى الكبير الدكتور جابر عصفور، عن استيائه من تصريحات النائب أبو المعاطى مصطفى، عضو لجنة الشئون الدستورية، النائب عن محافظة دمياط، بشأن ما صدر منه حيث تعجب متسائلًا عن الانتماءات السياسية التى ينتمى لها هذا البرلمانى حتى يقول هذا الكلام المشوه الظلامى؟! مضيفًا لا أجد تعليقًا على كلامه سوى «حسبنا الله ونعم الوكيل فى هؤلاء»، وفيما يخص رفض البرلمان لقانون تعديل المواد المتعلقة بقضايا النشر قال: «الدستور يلغى العقوبات على النشر ويطلق حرية الفكر والإبداع، وهذا هو ما تم الاستفتاء عليه شعبيا، والدستور فوق الجميع بما فيهم مجلس النواب». فيما قال الشاعر شعبان يوسف رئيس «الزيتون الإبداعية»، أن نائب البرلمان لم يقرأ لنجيب محفوظ ويتعامل مع الشائعة فقط، مثلما حدث منذ أكثر من نصف قرن عندما حاول أحد الأشخاص اغتياله بناءً على شائعة وتبين أن الجانى لم يقرأ له، ويرى يوسف أن إقحام عمل أدبى فى سياق سياسى نوع من المزايدة لاكتساب شعبية وهمية واسترضاء القوى المتطرفة والظلامية، مضيفًا أن رفض البرلمان لقانون النشر ومحاولة تجريم محفوظ مرة أخرى ومن قبلها قانون المجتمع المدنى يشير إلى أن البرلمان يتخذ خطوات لتقييد الحرية وتقييد أدواتها وسط ازدياد وتيرة المطالبة بحرية الرأى والتعبير التى بدأت المطالبة بها منذ بدايات القرن العشرين على يد طه حسين وغيره، وأشار يوسف إلى أن الحرية تنتهك على إيدى هؤلاء البرلمانيين الذين انتخبوا عن طيب خاطر، بدلا من الدفاع عن الحريات وعن أحمد ناجى يدعون لحبس المزيد، أشكال الرفض تؤدى إلى هزيمة قوى الحرية أمام قوى الظلام مشيرًا إلى أن ما يحدث تجاه محفوظ يؤكد على عالميته وعلى أنه من أكثر الأدباء الذين انتصروا للحرية وللقيم الإنسانية فى أعماله. الروائى عبد الوهاب داود صاحب رواية المهزوم قال: «النواب تعبير عن الشعب وما يحدث أكبر دليل على انحدار الشعب، فهذا العضور المحترم أظنه لا يعرف أن الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب والفنانة مديحة يسرى كانا فى وقت من الأوقات عضوين بمجلس الشعب، للأسف ما وصلنا إليه نتاج لسنوات طويلة من ثقافة الزحام وسوء التعليم وسيطرة التيارات السلفية على زمام الأمور. فيما قال الشاعر محمد حمدى صاحب ديوان «وابيضت عيناه»: «أهل مكة أدرى بشعابها، الأدب له معايير، ولا يحق لأى شخص الخوض فى مثل ذلك الأمر إلا أن يكون قد قرأ ووعى، فنظرة الإغراء التى نشاهدها فى فيلم، مطلوب من الروائى أن ينقلها بكل تفاصيلها، بالصور والكلمات حتى ينقل الإحساس للقارئ، مضيفا أن محفوظ لم يخترع واقع ولكنه رصد حالات إنسانية موجودة بأدواته التى يخدم بها على الفكرة، لذا أقول لمن يدلى بتصريحات جوفاء دعوكم من هوس الجنس وتمعنوا فيما تقرأون، فنجيب محفوظ قامة عالمية من الجهل التعامل مع ما كتبه بسطحية. فى السياق ذاته أعلنت جبهة الإبداع المصرى، أنها تلقت تصريحات النائب أبو المعاطى مصطفى، بكثير من الدهشة والانزعاج، وأضافت الجبهة فى بيان لها أن إصرار بعض نواب البرلمان المصرى البحث عن نجومية زائفة عبر ادعاءات دون قراءة أو معرفة، نجومية على الأسلوب التقليدى للشهرة يصطدم مباشرة بالأمل فى صناعة وعى مصرى حقيقى بعد قيام ثورتين، لا ترقى لتحديات المرحلة الراهنة، وأعربت الجبهة عن ضرورة مراجعة النائب المحترم وغيره من نواب البرلمان لأهل التخصص، قبل أن يتحدثوا عن جهل، فيصدرون للعالم صورة للبرلمان المصرى، باعتباره مجلس شورى ظلامى. وأهابت جبهة الإبداع المصرى بالقيادة المصرية سرعة العمل عبر الحكومة ووزارة الثقافة بالتعاون مع صناع الرأى لإنتاج ميثاق وطنى للإبداع المصرى يكفل حماية التراث وحرية الإبداع وإزالة كل معوقات تحول دون تفعيل القوى الناعمة لمصر، حتى يتبوأ الوطن مكانته الأصيلة على خريطة الإنسانية، وتعود «مصر المصرية» عزيزة أبية بإبداع يعبر عنها ويعبُر بها إلى المستقبل، إنه الانتصار لمصر قبل نجيب محفوظ وبعده. وعلق الروائى عبد الوهاب داود، صاحب رواية «رواية المهزوم» على الواقعة قائلا: «النواب تعبير عن الشعب، وما قاله النائب أكبر دليل على انحدار المستوى العام، ولعل النائب المحترم لا يعلم أن الموسيقار محمد عبد الوهاب والفنانة مديحة يسرى كانا عضوين بالبرلمان المصرى فى زمن كانت فيه راية الإبداع والثقافة خفاقة، وأضاف داود: «ما يحدث الآن نتاج ثقافة الزحام وسوء التعليم وسيطرة التيارات السلفية على مقاليد الأمور، وتصدرهم للمشهد، ولا أدرى كيف لأستاذ قانون أن يضع نفسه فى موضع ناقد دون أن حتى يقرأ».