كتب: د. إمام عبد الفتاح إمام أشرنا في مقال سابق إلي فكرة «رسل» التي يقول فيها إن الديمقراطية تكاد تكون مستحيلة في مجتمع جاهل أو أمي، وهذا يعني أن من الصعب تطبيق الديمقراطية في جميع المجتمعات بلا تفرقة فهي في رأي البعض شكل خاص من أشكال النظم السياسية التي تحتاج إلي مجتمع «معين»! أي أن هناك فلاسفة يرفضون امكان التطبيق «العام» ويجعلون الديمقراطية «وقفا» علي مجتمعات دون غيرها «فمونتسكيو» Montesquiea «1689 - 1735» المفكر السياسي اللامع في عصر التنوير الفرنسي وصاحب الكتاب الشهير «روح القوانين» يقول في تصنيفه للنظم السياسية ومدي مناسبتها للشعوب. إن الحكومة الديمقراطية - المعتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي أما الحكومة المستبدة فهي أصلح ما يكون للعالم الإسلامي، وهو قول يكرر بصورة باهتة التعصب الأرسطي القديم مع فارق واحد هو أن تعصب أرسطو كان «عراقيا» يعتمد علي التفرقة بين الأجناس فيجعل الجنس اليوناني هو أرقي الشعوب وأصلح للحكم الديمقراطي في حين أن الهمج والبرابرة - لأنهم خلقوا عبيدا بطبيعتهم ولا يستطيعون الاستمتاع بالحرية، بل تراهم يسعون في شوق إلي العبودية، ثم جاء «مونتسكيو» ليجعل التعصب هذه المرة دينيا، ويعمد إلي التفرقة بين الشعوب علي أساس الدين، فالشعوب المسيحية هي التي تصلح للديمقراطية، أما الشعوب الإسلامية بطبيعتها لا تطبق الحكم الديمقراطي، لأنها لا تعرف الحرية ولا تطلبها! والحق أن هذا افتراء لا معني له فليس في الدين الإسلامي ما يمنع من تطبيق الديمقراطية التي تعتمد علي الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من الأفكار التي تعد الدعوة إليها واضحة صريحة في آيات الكتاب الكريم فضلا عن أن الإسلام يدعو المسلمين إلي التشاور وإلي الحوار والنقاش واتخاذ القرارات بعد روية، كما أنه يجعل المسئولية فردية تقع علي عاتق الفرد وحده، أي أن كل فرد عليه أن يناقش ويفكر لأنه في النهاية مسئول عن أعماله، فإن احتج «مونتسكيو» أو غيره ممن يذهبون هذا المذهب بأن التاريخ الإسلامي كان يحكمه طغاة، أجبنا بأن هذه ظاهرة موجودة في التاريخ المسيحي أيفنا ثم من ناحية أخري لا علاقة لها بالمبادئ الإساسية التي يقررها الإسلام كدعامة لنظام الحكم فإن خرج عنها الحكام كانت مسئوليتهم لا مسئولية الإسلام. وهناك فيلسوف إنجليزي ليبرالي عظيم هو جون ستوارت مل «1806 - 1873» علي الرغم من أنه كان يدافع عن حرية الإنسان وكتب كتابا مهما عن «الحرية» فأنه ظلم المجتمعات المتخلفة عندما أدخلها في نطاق القصر ويري أن أفضل نظام للشعوب المتخلفة هو استعبادها شريطة أن تكون الغاية المنشودة هو اصلاحها!! فالحرية لا يجوز منحها للدولة قبل أن يتهيأ الناس لها بحيث تصل إلي سن الرشد وتكون قادرة علي أن تحكم نفسها بنفسها وإلا كانت كالطفل الصغير إذا تركت له الحرية ليمارسها قبل الأوان. والفكرة التي يسوقها مل بالغة الخطأ والخطورة للأسباب الآتية: أولا: ليست الحرية مما يمنع أو يمنح للإنسان حسب ظروفه وأحواله ذلك لأن الحرية هي هيبة الإنسان إذا فقدها فقد وجوده معها. ثانيا: صحيح أن الإنسان كثيرا ما يسيء استخدام حريته عن جهل أو بسبب سيطرة الغريزة أو ميل مع الهوي.. إلخ، لكنه يحتاج إلي تصحيح نفسه وإلي أن يتعلم من اخطائه، وهكذا قيل إن الديمقراطية هي التطبيق العملي للحرية، فهي ممارسة بالدرجة الأولي. ثالثا: هناك رأي بدأت به الفترة الناصرية الديكتاتورية وهو أن الناس يحتاجون إلي فترة انتقال قبل ممارسة الديمقراطية فترة انتقال لمدة عامين يتعلمون فيها أصول الديمقراطية وقواعدها قبل ممارستها وهي مفارقة غريبة تشبه قول القائل «إن عليك أن تتوقف عن قيادة السيارة حتي تتعلم فن القيادة الصحيح!! رابعا: في ظني أن المستعمر لن يجد حجة لاحتلال الشعوب المتخلفة أقوي من حجة «مل» بأن هذه الشعوب غير قادرة علي أن تحكم نفسها بنفسها وهي «قاصرة» لا تعرف مصلحتها الخاصة وسوف نقوم نحن بهذا الدور وهي نغمة سادت الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر! خامسا: أما ما يقوله «رسل» من أن تطبيق الديمقراطية يكاد يكون مستحيلا في مجتمع أمي أو جاهل، فهو قول لابد من التسليم به مع تحفظ واحد هو أن نسأله بدورنا: أننا نسلم معك بأن التطبيق الكامل للديمقراطية يستحيل في مجتمع جاهل، لكن ما العمل في هذه الحالة؟ وما البديل؟ هل ننتظر إلي أن ينتشر التعليم في جميع أرجاء البلاد؟ وحتي ذلك الحين: ماذا يكون شكل الحكم؟ هل نلجأ إلي الحكم الاستبدادي «وأي حكم غير الديمقراطية فهو حكم استبدادي بمعني ما من معاني الاستبداد)- الذي يقضي في النهاية علي الإنسان ويدمر ملكاته ويهدر قيمه؟! وهل هناك حاكم مستبد يجد أن من مصلحته نشر التعليم وادخال النور إلي الشقوق المظلمة والآفاق الضيقة؟! لابد أن نعترف في النهاية بأن تطبيق الديمقراطية في المجتمعات المتخلفة مسألة بالغة الصعوبة ذلك لأنها سوف تتعثر وتقع في كثير من الأخطاء وسوف تحجز مقاعد لأصحاب «الشيكات» وسوف تكون هناك رشاوي ومجاملات وتعصب عرقي وديني.. إلخ وسوف يعاني الناس معاناة شديدة من مثل هذا الحكم الذي لم يألفوه ولن تزول آثار الماضي بسهولة.. لكن لا مفر لنا من المرور بهذه التجربة، ثم أن الديمقراطية في جوهرها ممارسة وليست مجموعة من الأفكار النظرية شأنها في ذلك شأن قيادة السيارة وتعلم السباحة.. الخ - لابد من النزول إلي البحر ومواجهة التيار، والوقوع في الخطأ مرة ومرة إلي أن نتعلم كيف نسبح ثم كيف نجيد السباحة، لقد كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين ذات مرة يعيب علي ما حدث في نقابة المحامين من هرج ومرج وخروج عن اللياقة وآداب المناقشة (لدرجة التشابك بالأيدي) - أثناء الانتخابات وأردف ذلك بسؤال ساخر: «أهؤلاء هم الذين يطالبون بتطبيق الديمقراطية علي مستوي الدولة وليس في استطاعتهم تطبيقها في نقابتهم؟ لكنه نسي - للأسف - أن الديمقراطية «ممارسة» وليست مجرد أفكار نظرية وأن هؤلاء حرم عليهم النظام القائم (وهو النظام الناصري) ممارسة أي ضرب من ضروب الديمقراطية لأكثر من ربع قرن ومن ثم فإن عليهم أن يبدأوا من الصفر، وهو ما رآه الأستاذ بهاء!، ومن هنا أيها السادة تأتي خطورة فترة الانتقال «التي نادي بها عبدالناصر وزبانيته لمدة سنتين واستمرت ثمانية عشر عاما يحكم الشعب بالحديد والنار ليزرع فينا العزة والكرامة! وإذا كانت أعلي صورة من صور الديمقراطية في العالم الموجودة الآن في انجلترا، فإن الأمر لم يكن وليد المصادفة ولم يظهر فجأة بل جاء نتيجة معاناة شديدة، وعلي مدي قرون طويلة، فقد بدأت المحاولات في القرن الثالث عشر بمجلس اللوردات فقط، وظلت التجربة تتعثر وتصلح نفسها، ثم تعود لتكبر لتقف علي قدميها من جديد إلي أن وصلت إلي صورتها الحالية. ثم هل كان شعب أثينا الذي بدأت منه الديمقراطية شعبا متعلما؟ ونفس السؤال لابد أن نسأله بالنسبة لشعب المجنا كارتا Magna Carta (العهد الأعظم) عام 1215 الذي ثار في وجه الملك جون وانتزع منه هذه الوثيقة العظيمة؟ ثم هل كان ثوار باريس عام 1789 شعبا متعلما؟! لقد وصفهم «جان بول سارتر» بأنهم كانوا مجموعة من «الأصفار» أو نقاطا من الضعف والخوف والرعب، وانقلبت فجأة إلي تيار عارم وقوة مدمرة اكتسحت أمامها كل شيء: الملك والنبلاء والأقطاع والكنيسة ورجال الدين.. إلخ فهل كان شعب باريس في ذلك الوقت شعبا متعلما أو مثقفا بالقدر الذي يريده المعترضون ويشترطونه لتطبيق الديمقراطية؟ كلا لقد قيل يومها أن الإحساس بالظلم وليس الظلم نفسه هو الذي أدي إلي الثورة! إن ما ينقصنا هو «الوعي السياسي» - وهو غائب حتي عند بعض المثقفين الذين لايزالون يمجدون عبدالناصر وحكمه دون أن يصلوا إلي النتيجة المنطقية الواضحة وهي أن ما نحن فيه من بلاء هو محصلة الحكم الناصري الذي أضاع كل شيء مصر وفلسطين معاً بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة!