رياح الاحتجاج التي تضرب الشام قتلت قوات الأمن السورية أربعة متظاهرين يوم الجمعة. الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة تتابع بدقة هذا التصاعد المستمر في الاحتجاجات السورية غير المسبوقة.. فهل نحن أمام (ليبيا جديدة).. وهل القاهرة تستوعب المتغيرات السورية في إطار ما جري في مصر من تغيير؟ في وقت مبكر جدًا قلت إن سوريا هي المرشحة الأولي لتكرار سيناريو تونس.. كون أن مصر شهدت السيناريو التونسي أولا لا ينفي موضوعية التوقع السابق.. حتي لو كانت اليمن وليبيا ومصر وغيرها قد سبقت دمشق. أساس توقعي أن في سوريا طبقة متوسطة حقيقية.. متعلمة.. متمكنة اقتصاديا.. وترغب في أن تنال حريتها. وأن الدولة غارقة في الفساد ويكتم أنفاسها الطغيان.. وأن الأقلية هي التي تحكمها منذ 43 عاما (علويون يقهرون السنة).. وهذا وضع لا يستقيم في ظل الأجواء الثائرة التي تلف المنطقة وتحيط بشعوبها. لأن النظام في سوريا يمارس أكبر قدر من القهر والبطش.. مقارنة بكل ما يحيط به في دول أخري.. فإن الاحتجاجات تأخرت.. أخذت وقتًا أطول.. حركة الإعلام أبطأ.. والتداول المعلوماتي والتحريضي علي الغضب مقيد جدًا. وعن طريق فيس بوك انطلقت الدعوة.. واستجاب السوريون منذ أيام.. فانتبه الجميع علي قلة حجم المظاهرات.. وتكرر المشهد يوم الجمعة.. في أكثر من مدينة.. وانطلاقًا من أكثر من مسجد.. وكانت الحصيلة أربعة قتلي.. قوات الأمن أطلقت الرصاص.. ارتكبت الخطأ التقليدي في مواجهة الغضب ما يزيد الغضب. بعض السيناريوهات تعتقد أن (العلويين) الأقلية الحاكمة في سوريا إذا ما تعرضوا إلي ضغوط كبيرة وتصاعدت الاحتجاجات فإنهم سوف يحدثون انفصالا بإقليم الاسكندرونة.. ويتركون الشام للسنة وينعمون هم بما انفردوا به.. هذا احتمال.. وقد لا يتم.. لكن المؤكد أن أوضاع سوريا في هذه البيئة العربية الجديدة لا يمكن أن تستمر كما هي.. حتي لو كانت حملات الاعتقالات تتم الآن علي نطاق واسع في مختلف أنحاء سوريا.. هذا يزجي الغضب ولا ينهيه. أعداد المتظاهرين في البداية كانت قليلة.. نحو300 فرد في تجمعات متفرقة في كل من (دير الزور) و( حلب) و( درعا).. لكن الأعداد زادت نوعيا يوم الجمعة.. وحتي لو كانت عناصر حزب البعث والشرطة السورية قد فرقتهم بالقوة.. وحتي لو نسب هؤلاء المحتجون إلي أنهم بعض أقارب نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام.. فإننا مجددًا أمام حالة (كسر خوف) لم يكن من الممكن توقعه.. وقد رفع المتظاهرون شعار (الشعب السوري ما بينذل).. عبارة بالعامية السورية تعني أنه لن يقبل (الذل). وضع سوريا له أبعاد إقليمية معقدة.. وإذا ما نجحت موجات الغضب الهينة في أن تتصاعد.. فإننا نكون أمام تطور إقليمي دراماتيكي.. يضع الجميع أمام تناقضات مهولة.. خصوصا إذا كان هناك من يعتقد أن عليه أن يفتح الأبواب الآن لسوريا.. بينما التغيير يضرب برياحه جميع أرجاء المنطقة. سوريا أيدت الثورة في مصر.. وشجعت عليها.. فكيف يكون موقفنا وموقفها هي أيضًا من ثورتها؟! كما أن إيران الحليف الأهم لسوريا حرَّضت دوما علي الثورة في مصر.. وحاولت أن تتبناها.. فكيف سيكون موقفها لو أن سوريا ضربتها الثورة؟! والأهم أن سياسة مصر الخارجية الآن بصدد التغيير.. وتتبني قيم حقوق الإنسان.. وحق الشعوب في أن تتظاهر.. فكيف يمكن أن يكون موقفنا من أوضاع سوريا وهي قيد الغضب المتصاعد؟ لو حدث تغيير في سوريا، فإن معادلات الإقليم كله سوف يكتمل انقلابها.. خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة بين كل من طهرانودمشق. وأيضا التحالف في وجهه الآخر بين كل من الدوحةودمشقوطهران.. وسوف يؤثر هذا في أوضاع العراق.. وعلي أوضاع لبنان بالتأكيد.. حيث أجري تحالف 14 آذار مظاهرة كبري ترفض السلاح الذي يحتفظ به حليف سوريا الأهم: حزب الله. لقد توهمت إيران بداية أنها بصدد التهام الإقليم بعد موجات المد الثوري التي جرت فيه.. لكن الرياح التالية أتت بما لا تشتهيه سفن طهران. كما سيكون للوضع السوري المستجد تأثيره في أوضاع الفصائل الفلسطينية.. بغض النظر عن أن موقف ملف الفصائل لم يعد في يد أحد سوي أصحابه الآن.. وتتغير الآن آلية إدارته.. ولا أعتقد أن لدمشق حاليا نفس السطوة التي كانت لها عليه من قبل. لا يوجد حرج ما يواجه السعودية مثلا في التعامل مع هذا الموقف الجديد. فدمشق تهاجم المساندة الخليجية للاحتجاجات الشيعية في البحرين.. كما أنه حدث منذ أشهر تباعد واضح بين كل من دمشق والرياض.. والسعودية والخليج كله خصوصًا قطر لهم موقف واضح مساند للثورة في ليبيا. المعضلة سوف تكون في موقف مصر.. لأن القاهرة تعيش حالة (الفعل الثوري).. ولا يمكنها الآن أن تقف في وجه ما تطالب به الشعوب.. فهل نمد يدنا إلي نظام يقهر شعبه.. بينما نحن غيرَّنا نظام حكم في مصر لأنه لم يستوعب قيمة رسالة الاحتجاج التي بدأت في 25 يناير وانتهت في 11 فبراير بتخلي الرئيس السابق عن موقعه؟ قد يكون للنموذج التونسي عبقه الذي ألهم شعوبًا مختلفة في المنطقة. لكن المؤكد أن قوة الدفع الإقليمية التي حظيت بها موجات الغضب المتتالية.. وبما في ذلك حتي المناداة بشعار (الشعب يريد إنهاء الانقسام) بين الفلسطينيين.. إنما يعود لنتائج تأثيرات الفعل الثوري المهيب في مصر.. ذلك أن بلدنا دولة كبيرة ومؤثرة.. وما يجري فيها تكون له نتائجه فيمن حولنا.. والدليل أن العراق انضرمت فيه نيران التغيير بعد عمل عسكري أجنبي منذ سبع سنوات ولم يكن لذلك التأثير نفسه الذي أحدثته شعارات وتحركات ونتائج الفعل الثوري في مصر . يحتاج الأمر منا إلي إمعان نظر وتعميق رؤية.. واستيعاب نتائج ما جري في بلدنا قبل أن نتوقع ما يمكن أن يجري في بلدان أخري.. وحتي لو أن الملف السوري افتقد الزخم المطلوب خلال الأيام القليلة المقبلة.. نتيجة الانشغال الدولي بملف ليبيا.. فإن هذا لا يعني أن وضع دمشق سيكون مستقرا.. لا يمكن للعاصمة السورية أن تظل علي حالها بينما الأرض تضربها أقدام المتظاهرين والمحتجين في مختلف العواصم الأخري.. وفي هذا السياق أظن.. جازمًا أن النظرية التي تقول إن القوي الدولية تريد بقاء النظام الحالي في سوريا لأن في هذا مصلحة إسرائيل إنما هي قيد المراجعة الآن. في الأسابيع الماضية كان أن تركز الانتباه الدولي إلي الجانب الغربي من العالم العربي.. إقليم شمال إفريقيا.. مصر وليبيا وتونس والمغرب.. وأيضا انشغل بما يجري في السودان والجزائر.. وخلال وقت وجيز سوف تتحول الأنظار إلي المشرق مجددًا.. وقتها سوف تكون سوريا قد وضعت علي الأجندات الشعبية والدولية والإقليمية.. وهذا يستوجب أن نعدل في أولويات أجندتنا بدورنا. [email protected]