مع مطلع شهر المحرم من كل عام، يقف أهل الصلاح والتقوى يأخذون العبرة، ويسترشدون المعنى ويستلهمون الدرس ويحددون النشاط ويزرعون الأمل الذى يهون عليهم مشاق الحياة وصعوبات الطريق إلى الله تعالى كل هذا من أحداث الهجرة المباركة التى غيرت وجه التاريخ بأكمله وصنعت أمة جديدة. فحقاً إن فى السيرة لخبراً وإن فى الهجرة لعبراً وإن فيها لمدكراً لمن يريد أن يتعظ ويتذكر. وأول دروس الهجرة وعبرها وليس أول درس منها هو الحب والإيثار الذى بدأ به النبى العدنان صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فمن أجل أن يقيم الدولة وينشئ الأمة بدأ بالمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين حتى يزيل الفوارق ويجعل الأمة شخصاً كما حث على ذلك فى كثير من أحاديثه الصحيحة، قال صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». ولما علم صلى الله عليه وسلم أنه لن يمكن قيام دولة وأهلها متناحرون متقاتلون قام بالإصلاح بين الأوس والخزرج أولاً وهذا قام به قبل أن يهاجر وهو فى مكة حتى إذا أسس البنيان وغرس الحب بين الأوس والخزرج «الوئام» فقال تعالي: «وهو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم». ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا بل لما رأى المهاجرين ضحوا بكل شيء «المال والدار وقبلهما الولد» آخى بينهم وبين الأنصار وضرب الأنصار أروع الأمثلة فى الحب والإيثار. فإنك - أخى القارئ - لو تأملت معى كيف أن الصحابى يقول لأخيه من المهاجرين إن لى زوجتين فأنظر أيهما أحب إليك وأنا أطلقها لك وتزوجها أنت بعد أن تنقضى عدتها، أرأيت بعد هذا الحب من حب إيثار بالمال وحتى بالزوجة. لهذا قامت دولة الإسلام الوليدة الناشئة، فحقاً الحب والوئام يبنى الدول والبغض والكره يهدمهما ويهدم الأسر والمجتمعات حتى تصبح أشبه بغابة كل يريد أن ينتقم ويأثر ويحيك المؤامرات ضد أخيه. لكن لما استقبل الأنصار المهاجرين بهذا الحب قامت دولة الإسلام وصدق ربنا إذ يقول «والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتو ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون». ولو تأملت معى أيضاً أيها القارئ الكريم دولة آل ساسان حيث إنه لما تولى أبرويز الحكم قتل كل بنى عمومته وأقاربه حتى لا تحاك ضده المؤامرات وإذا به لم يعمر طويلاً فلما مات بحثوا عمن يتولى الحكم فلم يجدوا أحداً من نسل آل ساسان إلا طفلاً هربت به أمه، فأتوا به وجعلوه ملكاً عليهم فانهارت الدولة وسقطت فى زمنه لأنه كيف لطفل أن يقود دولة كدولة فارس. وكذلك دولة بنى أمية فى زمن الإسلام لما تولى عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه حاكوا ضده المؤامرات حتى مات مسموماً وظلت الدسائس والمؤامرات فى الدولة حتى آخر حكامها مروان بن محمد الملقب ب «الحمار» لأنه أطاع امرأة وتألب على الدولة وأعلن نفسه أمير المؤمنين فسقطت الدولة على يده وخرجت الرايات السود رايات بنى العباس من خراسان وكانوا متآلفين فأقاموا دولة بنى العباس. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». ولكى نبنى بلدنا لابد أن يحب بعضنا بعضاً وننسى العداوات والبغضاء ونسعى جميعاً للتقدم والرقى وننصهر فى بوتقة واحدة. إمام وخطيب مسجد الخازندار