لا وصول إلى الله عز وجل إلا بالتَّنزُّهِ عن طغيان الشهوات، والخروج عن غفلة اللذات، والتجَرُّد لله عز وجل فى الحركات والسَّكَنَات؛ ولأجل هذا انفرد الرهبانيون فى الملل السالفة عن الخلق، وآثروا التوحش عنهم؛ لطلب الأُنْسِ بالله عز وجل، فتركوا لله عز وجل اللذَّات الحاضرة، وألزموا أنفسهم بالمجاهدات الشَّاقَّة؛ طَمَعًا فى الآخرة، وأثنى الله عز وجل عليهم فى كتابه فقال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسِّيسِينَ وَرُهبَانا وَأَنَّهُم لَا يَستَكبِرُونَ} [المائدة: 82]. فلمّا اندرس ذلك، وأقبل الخلق على اتباع الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله عز وجل وفتروا عنه - بعثَ الله عز وجل نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين فى سلوكها، وشَرَع الحجَّ للناس؛ سياحةً لهم؛ تجرُّدًا لله تعالى، وتهذيبًا وتربيةً لنفوسهم فى طريقهم إليه عز وجل ؛ فقد رُوِى أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى فِى السِّيَاحَةِ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي: الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى»، والحجُّ نوع من أنواع الجهاد؛ قال صلى الله عليه وسلم : «جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»، ورُوِيَ عنهصلى الله عليه وسلم أنه قال: «الْحَجُّ جِهَادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ، كما رُوِى أن رَجُلا جاء إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّى أُرِيدُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ النبى صلى الله عليه وسلم: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى جِهَادٍ لا شَوْكَةَ فِيهِ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «حَجُّ الْبَيْتِ»، فأنعم الله عزَّ وجلَّ على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم. وشرَّف البيت العتيق بإضافته إلى نفسه تعالى، ونصبه مقصِدًا لعباده، وجعل ما حواليه حرمًا لبيته؛ تفخيمًا لأمره، وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شُعْثًا غُبْرًا، متواضعين لرب البيت، ومستكينين له؛ خضوعا لجلاله، واستكانة لعزته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت، أو يكتنفه بلد، ليكون ذلك أبلغ فى عبوديتهم، وأتم فى إذعانهم وانقيادهم؛ ولذلك وظَّف عليهم فيها أعمالا لا تهتدى إلى معانيها العقول؛ كرمى الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال العبودية؛ فإن ترددات السعي، ورمى الجمار، وأمثال هذه الأعمال - لا باعث فى الإقدام عليها إلا قصدُ الامتثال للأمر؛ من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط . وللحج والعمرة حِكَمٌ أخرى جليلةٌ، منها صلاح القلب: ففى رحلة الحج والعمرة ما يرسخ فى قلب الإنسان معانيَ الفرار إلى الله تعالى، واللُّواذ بالجناب الإلهي، قال تعالى: {فَفِرُّواْ إِلَى للَّهِ} [الذاريات: 50]، وهذا الفرار، وإن كان قلبيًّا معنويًّا، إلا أنه يترسخ بالأفعال الحسية، فالحاج يترك دياره وأهله وزينته وشهواته وما يملكه وراء ظهره، ويبذل من ماله وجهده متحمِّلا مشقة السفر والاغتراب، قاصدًا بيت الله الحرام الذى قال الله عنه: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنا} [آل عمران: 97]. وهذا الحاج قصَد الفرارَ إلى الله تعالى؛ ليؤمنه فى الدنيا والآخرة من عاقبة ذنوبه وتقصيره، ويمنحه فرصة جديدة؛ ليبدأ صفحة بيضاء من عمره، عسى أن يكتبه الله مع أولئك السعداء المقبولين الذين رضى عنهم {فَلَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ } [الأحقاف: 13].