كتب : سعد فتحى رزق اعتمد الفكر السياسي العربي في تأسيس مفهوم الدولة علي الانتماءات القومية والدينية أساسا في نظام الحكم، وإذا تتبعنا جذور النشأة القومية سنجد لها امتداداتها القبلية والعشائرية التي لم تتحرر منها الثقافات العربية، وهو ما يجعل المجتمع يتجه نحو الانتماءات المذهبية والطائفية، لصالح فصيل أو فئة تنتمي للفكرة دون الانتماء إلي الفرد، وهو ما لا يعطي مجالا لدولة المواطنة التي تقبل بل وترسخ لقبول الاختلاف بين المواطنين متعددي الثقافات والانتماءات والتي تساوي بين الجميع دون تمييز، وهذا واضح وجلي في ديباجة دساتير الدول العربية التي تصر علي تعريف هوية الدولة علي أنها دولة عربية أي مخصصة لقومية واحدة هي القومية العربية، وأنها دولة إسلامية وهو ما يعني تحديد معايير المواطنة علي أساس القومية والدين. وهو ترسيخ للعنصرية التي تجاوزتها الأنظمة الجديدة، الأمر الذي بدوره يرسخ لدولة الاستبداد المؤسس علي العقيدة الرسمية لأنظمة الدول البائدة، لتصبغ مجتمعاتها بالصبغة الدينية أو القومية وترفض كليا وجود قوميات أخري في دولها بل وتهمش الأديان الأخري لصالح الدين الرسمي، ولم تتوقف هذه السياسة علي حدود الاقصاء والتهميش، الأمر الذي أدي إلي ظهور الاثنيات والأقليات في هذه البلدان لتفجر نزاعات أهلية وصراعات دامية، تكلف الدولة خسائر بشرية ومادية باهظة وتنشط عوامل تعطيل مشاريع التنمية فيها وتهدد السلم الأهلي، وتقود إلي مآسي وكوارث إنسانية هذه النماذج من أنظمة الحكم تأخرت كثيرا عن ركب قاطرة التقدم العلمي والمعرفي والحقوقي ولا حاجة لاثبات ذلك فجميع الاحصائيات في جميع المجالات توضح ذلك التأخر الذي ربما أعني خروج تلك الأنظمة من التاريخ، أن كل من يتابع المنظومة الاستهلاكية للمجتمعات العربية سوف يكتشف أنها مجتمعات تستهلك ما لا تنتجه وتنتج ما لا يستهلكه أحد، إننا لا ننتج أيا مما نستهلكه بالمطلق - وننتج أفكارا وايديولوجيات تركها الإنسان الحديث لصالح التقدم العلمي والتكنولوجي ولصالح السلام العالمي وحقوق الإنسان. وهو ما يدل علي أن نموذج الدولة القومية أصبح من النماذج غير متوائمة مع اللغة الدولية المعاصرة التي تعلي من قدر الفرد وحقه في الحياة الحرة والكريمة، وقد بات مطلوبا من النخب الثقافية والسياسية والفكرية البحث عن وسائل لعصرنة الدولة وتحديثها وإعادة النظر في أسس بنائها وصولا إلي إعادة هيكلة يراعي فيها التنوع القومي والديني لجميع الأطياف، كما فعلت دول عديدة، إن العالم مليء بتجارب النجاح والفشل وهو ما ييسر علينا إعادة محاولة التجربة والخطأ في تحديد أي من الأنظمة التي نريدها دون إعادة اختراعها. وهناك تجارب ناجحة تستند علي نظريات أخري غير النظرية القومية أو الدينية في وضع أسس الدولة، كنظرية المصالح الاقتصادية والإدارة المشتركة التي تقدم تعريفات جديدة عن «الأمة والشعب والدولة»، حيث تكون رابطة الانتماء إلي الأرض والمصالح الاقتصادية وليست الانتماءات الدينية أو القومية، إنها رابطة المواطنة التي يضمنها دستور ديمقراطي حر يحدد حقوق وواجبات المواطن دون تمييز ليحقق الحرية والعدل والمساواة، وهو ما يضمن لكل المواطنين في الدولة أن يعبروا عن هويتهم وقوميتهم وديانتهم بحرية تامة، هنا يصبح التنوع عامل قوة واستقرار وتطور للمجتمع والدولة، إننا نؤمن بأن الدولة المدنية هي الوحيدة القادرة علي صنع جسر له قوة وملامح العصرنة التي ستجعلنا نمر إلي القرن الواحد والعشرين تاركين خلفنا سلسلة هزائمنا حيث إن الدولة المدنية الحديثة تقر بأن الشعب هو مصدر السلطات وليست الفكرة ولا العقيدة ولا حتي القومية وهو ما يساعد علي اتاحة مناخ اجتماعي وسياسي متجانس يعطي فضاء رحبا لمعني المواطنة غير المشروطة، متجاوزا المفاهيم القومية فكل من يسكن الأرض هو مواطن حر مهما كانت انتماءاته فالجميع شعب واحد تجمعه الأهداف العليا للوطن كما تجمعه المصالح المشتركة التي يجد فيها كل المواطنين أنهم جزء منها وهو ما يميز دولة المواطنة أو الدولة المدنية حيث تكون الحقوق والواجبات متساوية وهو ما يعني الأهمية القصوي في تحديد ملامح الدولة المدنية في عملية التعديلات الدستورية حتي تتم إعادة صياغة وتعريف دولة المواطنة التي تقر وتدعم الحرية والمساواة وحق الامتلاك من خلال الالتزام بنظام حكم يقوم علي أساس الفصل بين السلطات لضمان المساءلة والمراقبة علي الأداء الوظيفي في الحكم لصالح المواطن الذي هو مصدر كل السلطات.