مع مرور الأيام وتعاقب الأزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقهائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته, حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية ، ورغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا ان جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم ابية على التشدد والتطرف
الليث بن سعد منذ أن كان صغيرًا ذاع صيته، ولم يكتفوه وفتى بشهرته التى بلغها، ولا على تقديمه هذا الذى كان له وسط العلماء، وانما واصل الليل بالنهارفى الدراسة والأخذ عن العلماء، وكان أستاذًا يدرس للجمهور وللعلماء، وتلميذاً يتلقى عن العلماء، واستمر كذلك فى نهاية حياته.
ونروى عن ذلك بعض القصص:
لقد حج أول حجة سنة ثلاثة عشر ومائة، وكما يقول الله تعالى فى الحجاج «ليشهدوا منافع لهم». فإن الليث كانت منافعه التى شهدها فى هذه الحجة هى أن يأخذ عن العلماء، قال البخاري: قال يحى بن كير عن الليث قال «سمعت من ابن شهاب الزهرى بمكة سنة ثلاث عشرة، وهى أول سنة حج»، وكان الليث يجل ابن شهاب، ويحبه، ويحترمه لعلمه وفضله، روى ابن حجر عن عمرو بن خالد قال: قلت لليث: بلغنى أنك أخذت بركاب ابن شهاب الزهرى قال: نعم، للعلم، فأما لغير ذلك فلا، والله ما فعلته بأحد قط ويقول ابن حجر عن الليث: وقد سمع من ابن شهاب الزهر: كثيرًا، ويدخل بينه وبين الزهرى الواسطة بواحد، وباثنين، وبثلاثة وكان من منافع الليث التى شهدها بمكة فى حجته تلك أن أخذ عن نافع مولى ابن عمر، ونافع هذا من أوثق الرواة عن ابن عمر لم يختلف فى ذلك أحد من المحدثين، والسلسلة الذهبية عند كثير من المحدثين: مالك عن نافع عن ابن عمر، يقول الليث فيما رواه.
دخلت على نافع مولى ابن عمر: فقال: من أين؟
قلت من أهل مصر.
قال: ممن؟
قلت: من قيس.
قال: ابنكم؟
قل: ابن عشرين
قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين.
كان نافع أسمر اللون، ومن طريف ما يروى عن الليث فى حجته أنه لم يحج وحده وانما رافقه ابن لهيعة، ويقول الليث: حججت أنا وابن لهيعة، فرأيت نافعًا مولى ابن عمر، فدخلت معه إلى دكان علاف، فحدثني، فمر بنا ابن لهيعة..
فقال: من هذا؟
قلت : مولى لنا
فلما رجعنا إلى مصر جعلت أحدث عن نافع، فأنكر ذلك ابن لهيعة فقال: أين لقيته؟
قلت: أما رأيت العبد الذى كان فى دكان العلاف؟ هو ذاك. ويقول ابن حجر: وقعت لى نسخة الليث عن نافع، فيها من الأحاديث المرفوعة والموقوفة نحو المائة، ومع ذلك فكان الليث يروى عنه ما ليس عند مشافهة - بالواسطة - وربما رويعنه بأكثرمن واسطة واحد وإذا كان ذلك هو فى سن العشرين فإن السنين تمضى وهو فى نفس الأسلوب من الدراسة والتدريس.
ويقول أبو صلاح: خرجت مع الليث فى سنة إحدى وستين (بعد المائة) فشهدنا الأضحى ببغداد، فقال لى الليث: سل عن منزل هشيم الواسطى فقل له: أخوك الليث المصرى يقرأ عليك السلام، ويسألك أن تبعث إليه شيئًا من كتبك، فذهبت إليه، ففعل فكتبت لليث منها، وسمعتها من هشيم مع الليث وفيما يتعلق برحلته إلى العراق نحب أن نذكر حادثتين نترك أمر التصديق بهما إلى القارئ، ونذكر أن الأسباب التى دعتنى إلى ذكرهم هي:
1 - طرافة هاتين القصتين.
2 - المشكلة فيهما فى غاية التعقيد، وقد استعصت على كثير من الفقهاء،
3 - الحل فيهما فى غاية الذكاء والمهارة وسعة العلم.
4 - كل الكتب التى كتبت عن الليث والتى بين أيدينا ذكرتهما وسواء أصبحت القصتان أم كانتا خيالًا فإن فيهما طرافة ولها هى ذى القصة الأولى ننقلها عن الحلية:
عن أبى على الحسن بن مليح الطرائفى بمصر، ثنا لولو الخادم نادم الرشيد - قال:
جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة فى شيء من الأشياء، فقال هارون لها فى عرض كلامه: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم، واغتما جميعًا بهذا اليمين، ونزلت بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء فسألهم عن هذه اليمين فلم يجد منها مخرجًا، ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن يحمل إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه، وكنت واقفًا بين يديه لأمر إن حدث أمرنى بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه، وكنت المعبر عنه، وهلمنها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان إذ ذالك بيهم الليث بن سعد فيمن أشخاص من مصر، وهو جالس فى آخر المجلس لم يتكلم بشيء، وهارون يراعى الفقهاء واحدًا واحدًا، فقال له: بقى ذلك الشيخ فى آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت: إن أمير المؤمنين يقول لك: مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك؟
فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع، فقال: إن أمير المؤمنين يقول: لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم يخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس، فقال يخلى أمير المؤمنين يقول: لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم يخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس، فقال يخلى أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامى فى ذلك، فانصرف من كان بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس، ثم قال: تكلم، فقال: يدنينى أمير المؤمنين، فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام فقال: يا أمير المؤمنين، أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لى من أمير المؤمنين فى جميع ما آمر به؟ قال: لك ذلك، قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحفى جامع، فأمر به فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصفحه حتى يصل إلى سورة الرحمن، فأخذه وتصفحه حتى وصل إلى سورة الرحمن، فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ، فلما بلغ «ولمن خاف مقام ربه جنتان» قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف فقال: يقول أمير المؤمنين: والله فاشتد على الرشيد وعلى ذلك فقال له هارون: ما هذا ؟ قال: يا أمير المؤمنين، على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه، وكانت زبيدة فى بيت مسيل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب - ثم رفع هارون رأسه فقال: والله، قال: الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن يبلغ آخر اليمين، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله، قال هارون: إنى أخاف مقام الله. فقال: يا أمير المؤمنين، فهى جنتان وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالى فى كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر وقال هارون: احسنت والله بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت وسل ما شئت تجب فيه، فقال يأمير المؤمنين وهذا الخادم الواقف على رأسك، فقال: وهذا الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين والضياع التى لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إلى لأنظر فى أمورها، قال: بل نقطعك إقطاعًا، فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد من هذا شيئًا بل تكون فى يدى لأمير المؤمنين فلا يجرى على حيف العمال وأعز بذلك، فقال: لك ذلك، وأمر أن يكتب له، ويسجل بما قال، وخرج من بين يدى أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه مكرمًا أو كما قال.
ويقول المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق معلقًا على هذه القصة: «أفتى الليث بن سعد هارون الرشيد
فى رد طلاقه مراعيًا فى ذلك الناحية الروحية من قبل أن يراعى ظواهر الأحكام».
أما القصة الثانية فقد رواها يحى بن عبد الله بن بكير قال: سمعت الليث بن سعد يقول: كنت أسمع بذكر أبى حنيفة وأتمنى أن أراه، فكنت يومًا فى المسجد الحرام فرأيت حلقة عليها الناس متقصفين، فأقبلت نحوها فرأيت رجلاً من أهل خرسان أتى أبا حنيفة فقال: إنى رجل من أهل خرسان كثير المال، وإن لى ابنًا ليس بالمحمود وليس لى ولدغيره، فذكر نحوه سواء وزاد، قال الليث: فوالله ما أعجبنى قوله بأكثر مما أعجبنى سرعة جوابه، والقصة المشار إليها أن الرجل قال: يا أبا حنيفة، قصدتك أسألك عن أمر قد أهمنى وأعجزني، وقال: ما هو!
قال: لى ولد ليس لى غيره، فإن زوجته طلق، وان سريته اعتق، وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة؟ فقال له للوقت: «اشتر الجارية التى يرضاها هو لنفسك ثم زوجها منها، فإن طلق رجعت مملوكتك إليك، وإن اعتنق اعتنق ماللا يملك.
والمتتبع لما يرويه الليث من الأحاديث يجد فيها كثيرًا مما يتعلق بحسن السلوك وكمال الخلق إلى جانب ما يتعلق بأحكام الحدود والمعاملات.
وفى بغداد جرى حديث بين الإمام الليث وهارون الرشيد، فيه حكمة، وفيه من سداد الرأى ما فيه: روى ابن حجر عن الليث بن سعد قال: لما قدمت على هارون الرشيد قال لي: يا ليث، ما صلاح بلدكم؟
قلت: يا أمير المؤمنين، صلاح بلدنا إجراء النيل وصلاح أميرها، ومن رأسها العين يأتى الكدر فإذا صفا رأس العين صفت العين، قال: صدقت يا أبا الحارث.
استفاد الليث من رحلاته صغيرًا، واستفاد من رحلاته كبيرًا، وكانت حياته كلها استفادة وإفادة.
يقول أبو نعيم فى الحلية: «أدرك الليث نيفًا وخمسين رجلًا من التابعين».
ويقول ابن حجر عمن تلقى عنه من الليث: سمع ببلده من يزيد بن أبى حبيب الليث: سمع ببلده من يزيد بن أبى حبيب، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يعقوب، وعبيد الله بن أبى جعفر، وبالحجاز من عطاء بن أبى رباح، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبى الزبير محمد بن مسلم المكي، وأيوب بن موسيم الأموي، وعبد الله بن عبيد الله أبى مليكة، وعمرو بن شعيب، وعمرو بن دينار، وقتادة.
وسمع فى رحلته إلى العراق وهو كبير من هشيم، وهو أصغر منه.
ويقول ابن حجر أيضًا: وسمع من أبى الزبير، وحديثه عنه من أصح الحديث، فإنه لم يسمع منه شيئًا دلس فيه.
ويستفيض صاحب كتاب الرحمة الغيثية فى ذكر من سمع منهم الليث
من كتابات الإمام الراحل شيخ الأزهر عبد الحليم محمود.