تسير الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط عبر اتجاهات عكسية، ففي الوقت الذي تطمح فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي في إطالة أمد الحروب وتمددها بما يخدم مصالحها الضيقة تركز الدول العربية الكبرى على المشروعات التنموية وإحداث التكامل الاقتصادي العربي، بما يقوض خطط إضعاف الدول وتقسيمها وفقا للمفهوم الأمريكى المرتبط ب«الشرق الأوسط الجديد»، ليتشكل صراع لا تتضح معالمه بين الرغبة فى الرخاء والاستقرار والتنمية وبين مساعى إشعال بقاع جغرافية تأخذ في الاتساع دون أمد لتبريد أى من الحروب المستمرة، ويضع المنطقة بين سيناريوهات مفتوحة خلال الأشهر والسنوات المقبلة. ◄ تمدد الحروب وإطالتها يخدم مشروعات الاحتلال الإسرائيلي ◄ خطط إنشاء سوق عربية للكهرباء مستمرة رغم النزاعات ■ حرب غزة وفي خضم أصوات البنادق المرتفعة فى بؤر عديدة، استضافت العاصمة الأردنية عمان، الأسبوع الماضي، الاجتماع الرابع للمشروع التجريبى لتبادل الطاقة بين دول المشرق العربى تحت مظلة جامعة الدول العربية بمشاركة مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، وهدف الاجتماع الذى شارك فيه وزراء الكهرباء في الدول الثلاث للاتفاق على الجوانب الفنية الخاصة بتأسيس المشروع التجريبي، تمهيداً لانضمام الدول العربية فى المراحل المتلاحقة للمشروع، ويعد المشروع نواة لإنشاء سوق عربية مشتركة للكهرباء قائمة على أسس تجارية واقتصادية، بما يسهم فى توفير الطاقة لشعوب المنطقة بأقل التكاليف وأعلى مستويات الجودة، إضافةً إلى دعم التحول نحو الطاقة المتجددة وتقليل الانبعاثات الكربونية. وتطمح الخطط المستقبلية إلى ربط أنظمة الطاقة فى 22 دولة عربية، ما يعزز فرص الاستثمار ويوفر مليارات الدولارات، عبر خفض التكاليف وتقليص الحاجة إلى إنشاء محطات توليد جديدة، حيث من المتوقع أن تكتمل مشاريع الربط عام 2038، وفقا لدراسات نشرتها جامعة الدول العربية. وفى المقابل لهذه الجهود فإن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تنوى المصادقة على خطط توسيع الحرب، لاحتلال مساحات أكبر فى قطاع غزة والبقاء بها وإجلاء سكان من شمال ووسط القطاع، مع التلويح بتطبيق نموذج رفح فى مناطق أخرى داخل القطاع، فى إشارة لعزل المدينة عن محيطها، فيما هددت برد غير مسبوق هذه المرة على استهداف الحوثيين لمطار بن غوريون فى تل أبيب ما قد يشعل صراعا إسرائيليا إيرانيا مباشراً. ◄ إسرائيل وإيران ويمكن القول إن استمرار الصراع المشتعل فى الشرق الأوسط يغذى المصالح المتضاربة لإسرائيل وإيران، حيث تسعى كل منهما إلى توظيف الفوضى لتعزيز نفوذها الإقليمى وتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ففى الوقت الذى تعمل فيه إسرائيل على إبقاء حالة عدم الاستقرار لمنع تشكيل تحالفات عربية أو إقليمية قد تشكّل تهديدًا لموقعها العسكرى والسياسي، تستغل إيران الأزمات الإقليمية لتوسيع رقعة نفوذها وصرف الأنظار عن أزماتها الداخلية، ما يجعل المنطقة بأكملها ساحة مفتوحة لصراعات لا تهدأ يحقق أهدافها ومصالحها، وكلما وسعت الدول العربية من دائرة تنسيقها بشأن إحداث نقلة تنموية تقفز على خطط إضعاف الجبهات الداخلية وإشعال الصراعات التى تهدف لتدمير مؤسسات الدول وإدخالها فى أتون الصراع الأهلى يحدث تطوراً أمنياً يخدم الاحتلال الإسرائيلي، وقبل أن تندلع الحرب الأخيرة فى قطاع غزة كان التعاون المصرى الأردنى العراقى على أشده نحو تدشين مشروع تجارى ثلاثى للنقل متعدد الوسائط، جرى الاتفاق لتيسير التبادل التجاري، وتسهيل تدفق النفط والبضائع من الشرق حيث ميناء البصرة إلى الغرب، ومنه إلى البحر المتوسط وأوروبا. كما وضعت الدول العربية آمالًا عريضة على مشروعات الربط الكهربائي بهدف الحفاظ على أمن الطاقة وتأمين معدلات التغذية الكهربائية للمنطقة، إذ برزت جهود كبيرة لتنفيذ مشروعات عديدة، أهمها الربط الكهربائى المصرى السعودي، والربط الكهربائى المصري الثلاثى والربط الكهربائى الثماني، وغيرها من مشروعات الربط الكهربائي، وهى مشروعات أضحت ضرورة بسبب تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على إمدادات الطاقة، وحدوث الكثير من الأزمات التى تسببت فى ارتباك المشهد العالمى فى أسواق الطاقة العالمية، وقبل فترة وجيزة من اندلاع الحرب المستمرة فى السودان تضاعفت أوجه الشراكة بين القاهرةوالخرطوم، وقامت مصر بأدوار مهمة لكى يتجاوز السودان تأثيرات المرحلة الانتقالية عبر دعم مشروعات الربط الكهربائى والسكك الحديدية وتأهيل الموانئ البحرية والنهرية، وتطوير المعابر البرية لتسهيل حركة النقل والتجارة، وزيادة حجم التبادل التجارى بين البلدين، وتوجيه رجال الأعمال والشركات المصرية للاستثمارات فى السودان، لكن هذا التنسيق تأثر سلبًا مع دخول الحرب عامها الثالث دون أمد منظور لوقفها. ◄ اقرأ أيضًا | استشهاد 4 فلسطينيين في قصف الاحتلال الإسرائيلي مقرا للأونروا بمخيم جباليا شمال غزة ◄ دول الجوار وقال الدكتور هانى المرشدى خبير الاقتصاد والسياسة الدولية إن اتساع نطاق الصراعات المسلحة فى دول الجوار المصرى قاد إلى إعادة تشكيل المشهد الإقليمى على نحو يحدّ من فرص التكامل العربي، ويُقيّد بشكل هيكلى تنفيذ مشاريع التعاون الثنائى ومتعدد الأطراف، لا سيما فى مجالات التجارة والطاقة والربط اللوجستي. وتكشف هذه الصراعات عن نمط استراتيجى يعكس ما يُعرف ب«نظرية شد الأطراف»، حيث تتحول هوامش الدولة إلى ساحات تنازع وهو ما يترك تأثيراته على مجمل الأمن القومي، وأوضح أن الحدود الغربية والجنوبية والشرقية لمصر تشهد ثلاث حروب مفتوحة تتقاطع فيها المسببات الهيكلية، وفى المقدمة منها ضعف بنية الدول التى تشهد هذه الصراعات، مع الاعتبارات الجيوسياسية المعقدة، ولعل أبرزها ما يحدث فى ليبيا منذ العام 2014، حيث تعانى البلاد انقسامًا سياسيًا بين حكومتين متنافستين، وقد شهد عام 2024 تصاعدًا ميدانيًا ملحوظًا بعد تعثّر مسار الانتخابات، حيث وثَّقت بعثة الأممالمتحدة أكثر من 490 اشتباكًا مسلحًا فى غرب ليبيا، أدت إلى نزوح نحو 45 ألف مدني، فيما تستمر حالة الانفلات الأمنى فى ظل وجود آلاف المقاتلين الأجانب وانتشار السلاح، ما جعل ليبيا ساحة مفتوحة لتنافس إقليمى ودولى متعدد الأقطاب، أما الصراع الثانى فهو لا يقل ضراوة عن الأول بحسب، هانى المرشدي، ويتعلق بالحرب الدائرة الآن فى السودان بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا الدعم السريع منذ أبريل 2023، وسرعان ما تحول إلى حرب أهلية شاملة، وقد شلّت الحرب البنية التحتية الحيوية فى البلاد، خاصة فى الخرطوم ودارفور، وتسببت فى انفلات أمنى على الحدود الجنوبية لمصر، وتفاقم موجات اللجوء والنزوح، أما الصراع الثالث والذى تبقى تأثيراته على المنطقة كبيرة للغاية فتتعلق بما يجرى الآن فى قطاع غزة منذ أكتوبر من العام 2023. وأوضح المرشدي، أن هذه الحروب والصراعات لديها انعكاساتها المباشرة على الدولة المصرية ودول المنطقة، إذ إنها تترتب عليها مشكلات أمنية جسيمة أبرزها تدفّق الأسلحة والعناصر المتطرفة عبر الحدود فى بيئة تتسم بالسيولة الأمنية والانهيار المؤسسى فى دول الجوار المصرى كما تفرض هذه النزاعات ضغطًا مستمرًا على الأجهزة الأمنية والعسكرية، التى تجد نفسها مضطرة إلى توزيع الانتشار والجاهزية على جبهات متعددة فى ظل تهديدات غير تقليدية كالمرتزقة والميليشيات العابرة للحدود. أما عن الأطراف المستفيدة، فإن الباحث هانى المرشدي، ذهب لتأكيد أن إسرائيل تأتى فى مقدمة الأطراف المستفيدة، إذ إنها تسعى إلى تفكيك محيطها العربى واستنزاف الدول المركزية، كما أنها تستفيد من الميليشيات المسلحة التى تُموّل أنشطتها من التهريب والجبايات، والدول الإقليمية الطامحة للتوسع، كتركيا وإيران، فضلًا عن القوى الدولية التى تسعى لتكريس وجودها العسكرى عبر أذرع وشراكات أمنية، إضافة إلى شركات السلاح والمقاولات الأمنية التى تحوّل النزاعات إلى فرص ربحية. ◄ أزمات متعددة وقال الدكتور هانى الجمل الباحث فى العلاقات الدولية، إن منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها مصر تحيط بها العديد من الإشكاليات والأزمات فى مقدمتها الحرب فى غزة وهى غير تقليدية، وأن ما يطرأ الآن الصراعات التى تأخذ فى الاشتعال فى البحرين الأحمر والمتوسط، واتجاه الولاياتالمتحدة نحو عسكرة البحار وهو ما يؤثر سلبًا على الأمن الاستراتيجى المصري، وأن الدولة المصرية بقيادة حكيمة للرئيس عبدالفتاح السيسي تعمل على التعاطى مع هذه التطورات وفقًا لما يقتضيه الموقف سواء بالتعامل بقوة وحسم فى مواجهة أى تهديد مباشر أو عبر الصبر الاستراتيجى بما يحفظ الأمن القومى المصري، وأوضح أن مصر انخرطت بقوة فى الأزمة المشتعلة حاليًا فى قطاع غزة باعتبارها الوسط الأهم فى محاولات التوصل إلى تهدئة إنسانية وكانت وسيطًا نزيهًا شهد به الجميع ووقفت شوكة فى ظهر المخططات الأمريكية الإسرائيلية الساعية لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، لافتًا إلى أن القاهرة تتعامل مع الأخطار المتصاعدة فى البحر الأحمر على أنها نتيجة مباشرة للحرب فى غزة، وأن استهداف الحوثيين للسفن التجارية كان له تأثيره السلبى على الاقتصاد المصرى، كما أن حرب ليبيا قادت لعودة جزء كبير من العمالة المصرية هناك إلى جانب دفع فاتورة تحمل الفارين من حرب السودان. ◄ التأثير السلبي ولفت إلى أن الحروب الدائرة حاليًا تؤثر سلبًا على خطط التنمية الاقتصادية فى المنطقة، والتى تعد محط أنظار العالم نتيجة لأهمية مشروعات الطاقة التقليدية أو الطاقة المتجددة وكذلك أهمية الممرات الملاحية المهمة فى البحر الأحمر تحديدًا منطقة باب المندب أو خليج عدن ووصولًا إلى قناة السويس، إلى جانب المناطق البحرية الهامة فى البحر المتوسط، والتى تعد بوابة لحركة التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي، وذكر أن التصعيد الإسرائيلى الحالى فى سوريا بعد تغيير نظام الرئيس السابق بشار الأسد يؤسس لوجود صراع طائفى فى خلفيته مشروعات التوسع الإسرائيلية التركية، مع انسحاب المشروع الإيراني، وأن إعادة نشر التنظيمات الإرهابية هناك يؤثر بشكل سلبى على خطط التنمية فى منطقة الشرق الأوسط بأكملها والتى قد تتأثر بموجات الإرهاب والنزاعات الطائفية.