"25 يناير" ليست مجرد ثورة خرج بها الشباب للنور هاتفين بمطالبهم في حقهم في الحياة.. في حقهم بمصر.. إنها ملحمة تاريخية تحمل الكثير من المعاني لن يدركها أو يشعر بها سوي من عايشها.. من جعل من "ميدان التحرير" بالقاهرة، و"ميدان الأربعين" بالسويس، ومسجد "القائد إبراهيم" بالإسكندرية منزلهم وأرضهم.. سريرهم الدافئ في برد الشتاء القارس، الذي هاجمهم مرارا.. فصمدوا أمامه مستعينين بإيمانهم بحقهم.. مشاعر مختلطة عايشها هؤلاء الشباب، يأس وغضب وكبت إنما حركهم الأمل والإيمان بمطلبهم وقوتهم في الحصول عليه والوصول له، من أقلام هؤلاء ندرك السر.. سر صمودهم وإيمانهم، سر مواجهتهم لكل هذه الظروف القاسية، وحتي سر فرحتهم واحتفالهم فيما بعد، اليوم ينظفون منزلهم الكبير قبل عودتهم لمنزلهم الصغير..اليوم تسجل أقلامهم يومياتهم في ثورة "25 يناير". المشكلة الحقيقية للأديب أنه يري الحياة من حوله بنظرة مختلفة، قد يجد جمالا خاصا في تفاصيل صغيرة قد لا تهم غيره، بل قد لا يراها غيره علي الإطلاق، في صباح اليوم الأول لعمل اللجان الشعبية أذكر أنني وجدت جمالاً خاصًا في شكل الركام الناتج عن احتراق إطارات الكاوتشوك، مع ضوء الصباح لا يبقي من الإطار سوي حفرة في أسفلت الطريق وبعض المطاط الذائب، وخصلة كبيرة هائشة من الخيوط الذهبية التي تدعم قلب الإطار، يبدو المشهد ككل كتكوين فني ما. دعنا من كل هذا ..فلأتحدث عن أمور أكبر قليلا.. المظاهرات؟.. لا .. هناك الكثيرون ممن هم أقدر مني في الحديث عنها .. سأتحدث عما كان علي هامش الحدث بعيدا عن كاميرات التليفزيون.. في الأيام التالية لجمعة الغضب صارت أكثر الأمور اعتيادية مغامرة غير مأمونة العواقب.. يبدو الذعر واضحا في عيون الذاهبين في رحلة العمل اليومية .. في عيون الواقفين في طابور الخبز أو في الأسواق المختلفة.. الكل يعيش لحظات منذرة بالخطر في انتظار هجوم جيوش البلطجية والمساجين الذين لهجت بذكرهم القنوات التليفزيونية. خلافا للكثيرين لم أحصل علي إجازة من العمل .. حين يكون عملك مرتبطًا بالمرضي لا تصبح الإجازات متاحة .. إلا إذا طلبت من المريض أن يحصل علي إجازة هو الآخر.. رغم الخطورة الكبري في الانتقال عدة كيلومترات عبر طريق صار مرتعا لقطاع الطرق لكن.. شكرا للعامل القاطن في إحدي المناطق الشعبية.. الذي أتاح لي ان أكون مع الجالسين في الفناء الخلفي للثورة.. من وصمهم دوما بال"غالبية الصامتة"، والحق أقول هم كانوا أبعد ما يكونوا عن الصمت .. هي الغالبية المتكلمة إذن .. يشمل حديثهم الطيف الواسع للآراء المختلفة، ابتداء من" دول شوية عيال صايعة وما اتربوش.. هما لو ليهم أهل كانوا سابوهم قاعدين في الميدان كده؟" إلي " ربنا يسترها معاهم ويحميهم.. دول عملوااللي احنا كان نفسنا نعمله من زمان" ..بالإضافة للنغمة السائدة دوما :الحديث عن "أكل العيش" و"وقف الحال". الكثيرون جالسون علي المقاهي .. خصوصا أرباب الحرف اليدوية الذين عانوا من قلة الطلب عليهم في أيام الخوف.. التليفزيون مفتوح دوما علي إحدي القنوات الإخبارية التي صارت بديلا عن مباريات كرة القدم. عن الليل واللجان الشعبية.. حين يكون منزلك في شارع جانبي متفرع من شارع تحرسه عشرات اللجان الشعبية بالاضافة إلي دبابات الجيش .. لا يبقي للجنة الشعبية في شارعك من عمل سوي الاشتباه في المارة ( و كلهم بالطبع من سكان الشوارع المجاورة!) والثرثرة .. الحديث السياسي يأخذ بعدا آخر .. سواء في ليل اللجان الشعبية أو بين ركاب المواصلات العامة .. أصبح حديثا أكثر حرية و- الأهم- أكثر تفاؤلا يتحدث الجميع ليس فقط عن النظام الذي فقد كرامته منذ جمعة الغضب.. لكن أيضا عن ما بعد النظام..عن مشاريع ملؤها الطموح والخيال تحلم بمصر فاضلة.. منهم من يحلم بإلغاء جهاز الشرطة وعمل لجنة خاصة ينتخبها سكان كل حي للالتزام بحمايته وتأمين خدماته الإدارية، ومن يحلم بإلغاء منصب رئيس الجمهورية وان تصبح كل المناصب بالانتخاب.. سواء لعضوية البرلمان أو الوزارة أو إدارة المدن.. خيال سياسي جامح ظن البعض ان المصريين يفتقدونه. إن كان لي أن أقول، فأرجو أن يذكر التاريخ أن ثورة يناير قد شارك فيها كل من حاربوا وماتوا من أجل الحرية، سواء من ملأ صوتهم الميادين، أو من سهروا علي بيوتهم وتحملوا في صمت.. تحية لكل المصريين. محمد العبادي قاص سكندري