اكتسب ميدان التحرير في قلب القاهرة صفة جديدة بعد الأحداث الوطنية الأخيرة التي احتضنها الميدان، فقد أصبح عنوانا لكل مصري شارك في الانتفاضة من أجل العدل، وكل مصري بارك التحرك غير المسبوق الذي قاده شباب وطني صبر طويلا علي اتهامه بالتراخي والانصراف عن مصالح الوطن والتهميش بسبب سيطرة الشرائح العليا في السن علي مقاليد السلطة في المجتمع. فاجأ الشباب الجميع حتي أدهش نفسه بأنه يعرف ويراقب وينتظر، فقدم مثالا للصبر والتمسك بالمعرفة ثم انطلق في اصرار عجيب لغاية واضحة تماما منذ اللحظة الأولي وهي تغيير الواقع المصري الذي ظل محل نقد جميع الناس دون استثناء دون أن يستطيع أحد وضع الجرس في رقبة القط الذي أحاطته جماعة من القطط السمان نجحت في ان تحجب عنه الرؤية فتوحشت ونسيت كلمة شعب ومعناها ومضمونها وكثيرا ما سمع الشعب كلمة، أجيبلكم منين، وأنا اعرف مصلحتكم أكثر منكم. الغريب أن الطبقة الحاكمة بقوة الأمن المركزي ظنت أن الصمت والسكوت علامة الرضا وأن نخوة الشعب قد ذهبت الي غير رجعة مع خطط الافساد المتعمد لجميع الطبقات والفئات وتقديم الرشاوي السياسية والمالية بتسهيل السرقة من البنوك ومن الوظائف العامة لكل من وظف نفسه جلادا للشعب وبوقا من أبواق النظام الذي شاخ وترهل وأصابه الفساد من أطرافه وقلبه. وقعنا جميعا أو معظمنا تحت وهم البداية الطيبة التي بدأ بها النظام قبل ثلاثين سنة وما زلت أذكر الكلمة الشهيرة أن الكفن بلا جيوب، وهو كذلك حقا، لكن سرعان ما تبخرت الكلمات الطيبة وبقي لنا المكر السيئ الذي احاط بهذا الوطن من كل جانب فقتل فيه الرغبة في السمو وعظم الغرض المادي من كل شيء وأغري الناس بالسرقة من بعضهم البعض والافتراء بكل قسوة والتعامل بين الحاكم والمحكوم بالغلظة وسوء التدبير. الأدهي والأمر أن القيادات الوسيطة في الدولة أصابتها لعنة الغرور ومارست القهر علي بقية خلق الله من العاملين الذين وقعوا تحت أيديهم فداسوا علي كرامتهم بلا رحمة كما يفعل السادة الكبار معهم، هذا الكلام لا يعني التعميم، لكن في الأعم الأغلب ساد هذا النموذج بين الناس وتحولت القوي العاملة الحقيقية الي عبيد لأصحاب الحظوة أو السلطة أو المال. كل هذه الأنماط من سوء المعاملة كانت كافية لتكوين بذور الثورة تحت غطاء من الصبر وقوة الاحتمال في ظل شعار مضلل ينادي المظلومين والمقهورين بحماية الوطن والحرص علي عدم تمزيقه بينما السادة يمزقون من الوطن كل يوم قطعة بدم بارد ، وكأن فريضة حماية الوطن واجب علي الشعب المسكين دون غيره من الجبابرة الذين احتموا بخوذات الجنود البسطاء من أبناء الشعب في الأمن المركزي وخططوا لأن يضرب الشعب بعضه بعضا في الشوارع والميادين بينما هم يتفرجون ويضحكون في سرهم وعلانيتهم علي تلك الصورة الهزلية التي يضرب فيها الشعب بعضه بعضا لمجرد اختلاف ملابس الأمن المركزي عن بقية الناس! أذكر أنني كثيرا ما حذرت في كتاباتي التي نشرت، وفي أحاديثي الخاصة التي جرت بيني وبين كثير من المسئولين حتي في قطاع الأمن ذاته من خطورة تلك اللعبة ومن خطأ زرع عقيدة قتالية لدي جنود الأمن المركزي تصور لهم أن ضرب المواطنين يستهدف حماية الوطن عن طريق الخلط بين مقاومة الارهاب ومطاردة الجريمة، وبين ضرب المطالبين بحقوقهم المدنية والسياسية ، فالجنود في النهاية هم مواطنون يعيشون ايضا تحت نفس الظروف السيئة مع أهاليهم في قراهم ونجوعهم علي امتداد مصر كلها. وفي وقت الحسم لن تجدهم أبدا يتصدون للاحتجاجات بالقمع المطلوب . لكن للأسف غرور القوة والاستقواء بالمناصب كان يحول دون الاستماع والتأمل والتحقق من الطرح الفكري حول أي شيء. نجحت ثورة الشباب في اشعال الفتيل وكشفت كل أوجاع المجتمع التي تراكمت علي مدي ثلاثين عاما بالاضافة الي رصيد سابق من قهر العصور التي مضي أصحابها ، لكن يجب أن يكون مفهوما أن ثورة الشباب لم تكن لتنجح لولا الغباء السياسي المستحكم الذي أصاب النظام بالعمي عن ما فعل بالناس ، فلجأ اليهم يظن ان الحيلة لا تزال تنطلي عليهم لكن السيف كان قد سبق ، فالنظام الذي انهارت دعائمه في مواجهة ثورة سلمية كان قد قطع صلته بقواعده فأصبح بلا جذور وضاع كل شيء من النظام ليعود كل شيء الي الشعب في لحظة فارقة بين الداعين الي المستقبل وبين الذين غيبهم الجهل ليصبحوا عبرة من عبر الماضي علي أرض ميدان التحرير.