أ.مختار الكسار لقد كان الظن – حتى هذه اللحظة – أن القرآن الكريم لم يتعرض لتاريخ نبوة الرسل الكرام – عليهم السلام – ولا تاريخ وفاتهم ..وهذا واضح من النص القرآنى : ألفاظًا، وآيات، وسورًا . وبه قال المفسرون : فعن نبوة عيسى عليه السلام، على سبيل المثال قال الشيخ سيد قطب : "لايزيد السياق القرآنى شيئًا على هذا المشهد . لا يقول كيف استقبل القوم هذه الخارقة، ولا ماذا كان بعد هذا من أمر مريم وابنها العجيب، ولا متى كانت نبوته التى أشار إليها القرآن وهو يقول: " آتانى الكتاب وجعلنى نبيًا". وبمثله قال الدكتور محمد الطيب النجار :" لم يذكر القرآن الكريم متى بدأت نبوة المسيح عيسى عليه السلام، ومن هنا ساغ لنا أن نرجع إلى ما جاء فى إنجيل برنابا، فهو فيما نعتقد أصدق المراجع التى يعتمد عليها فى مثل هذا الخبر. القرآن ..وتاريخ نبوة عيسى عليه السلام ولقد أصاب العالمان الكريمان، بالنظر إلى المفهوم القديم للسياق القرآنى ومكنوتاته : "الألفاظ، والآيات، والسور"..ولكن ماذا لو أن المفهوم الحديث لهذا السياق يضم بالإضافة إلى ما تقدم (الترقيم) سواء للآيات أم للسور، و(تكرار الأصوات) فى السورة الواحدة، وأعداد "الكلمات" فى القرآن كله ؟ إن مثل هذا الفهم الجديد للسياق القرآنى لا يخل بثوابت التفسير، ولا ينتقص من أفهام السلف الكريم، وإنما يضيف إلى رصيد التفسير اجتهادات تزيد الإعجاز القرآنى نورًا على نور وهدى على هدى. والمثال الدال على هذا : ما أشرق به القرآن على الدكتور زغلول النجار، وحسن تلقيه للإشارات القرآنية ولغة أرقامها فى مكانة وترتيب (معدن الحديد) كعنصر فلذى ووزنه الذرى، من خلال سورة الحديد (السورة 75) ورقم الآية الوحيدة التى ورد بها لفظ الحديد (الآية 25) فإذا بحقائق العلم الحديث تتوافق تماما مع رقمى السورة القرآنية، والآية القرآنية، هكذا اتسع مفهوم السياق القرآنى (بالترقيم) لما ضاق عنه الفهم القديم. وهكذا أيضًا: تنبه كاتب هذه السطور – فى لحظة كشف قرآنى كريم- إلى رقم الآية التى ذكرت نبوة عيسى عليه السلام فإذا بها الآية الثلاثون من سورة مريم ..ونصها : " قال إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيًا" ]مريم:30[. ولنلحظ صياغة الخبر علي لسان عيسى عليه السلام وهو فى المهد! – واختيار الفعل الماضى: (جعلنى) نبيًا..وما يمكن أن يرد على الأذهان من أسئلة متفاعلة مع الحدث، من بينها بالتأكيد: متى كان (الجعل) للنبوة ؟ فيرد الترقيم مباشرة : (30) . هذه الثلاثون هى ما تقر به رواية إنجيل برنابا، فى الفصل العاشر منه ونصّها: " أن يسوع لما بلغ الثلاثين من العمر صعد إلى جبل الزيتون مع أمه وبينما كان يصلى لله إذا بنور قد أحاط به، وعدد من الملائكة، فقدم له جبريل كتابًا كأنه مرآه برّاقة، فنزل به إلى قلب يسوع الذى عرف به ما فعل الله، وما قال الله، وما يريد الله، ولما تجلت هذه الرؤية ليسوع، وعلم أنه نبى مرسل إلى بيت إسرائيل كاشف مريم بكل ذلك". وهذه الثلاثون – أيضًا – هى ما ذكره ابن جرير فى تاريخه، من أن الإنجيل أنزل على عيسى وهو ابن ثلاثين سنة – على نحو ما يورد الإمام "ابن كثير" فى قصص الأنبياء ، وهو نفس الأمر الذى يرتضيه الدكتور محمد الطيب النجار فى كتابه "تاريخ الأنبياء"، حيث يقول : " وقد أخذ المؤرخون ومفسرو القرآن عن الإنجيل هذه الرواية، فهم يقولون جميعَا: إن نبوة المسيح قد بدأت عندما بلغ الثلاثين من عمره، ولا نرى بأسًا من ذلك، فإن سن الأربعين ليس شرطًا لتحديد بدء الأنبياء، فلقد أوتى يحيى عليه السلام العلم والحكمة وهو صبى، وبدأت نبوته قبل أن يبلغ الثلاثين". من هذه اللحظة فصاعدًا، لسنا بحاجة إلى رواية إنجيل برنابا، ولا غيره من الأناجيل، لنأخذ منها تاريخ نبوة عيسى عليه السلام، فلدينا السياق القرآنى الكريم – مضمومًا إليه الترقيم كتاريخ وما أعجبه من ترقيم وتاريخ! فعلى رغم من إنزال القرآن الكريم على قلب النبى (الأمى) محمد صلى الله عليه وسلم مُنجمًا، مُفرقًا، على مُكث، عبر مساحة زمنية بلغت ثلاثة وعشرين سنة ..على الرغم من ذلك ظل القرآن بهذا الترتيب النهائى المعجز للآيات وترقيمها، وللسور وترتيبها، على امتداد أكثر من أربعة عشر قرنًا – وإلى آخر الزمان إن شاء الله- فمن لهذا الصنيع المعجز غير ما قال فى قرآنه العزيز " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". القرآن ووفاة عيسى عليه السلام ! أجل ..حيث يرد الاسم الذى ارتضاه الله تعالى لعبده ورسوله عيسى هكذا " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ] آل عمران : 45[. الاسم الكامل : (المسيح عيسى ابن مريم) ويرد فى ثلاثة مواضع، ويختصر الاسم إلى (المسيح ابن مريم) ويأتى خمس مرات ، أو (عيسى بن مريم) ثلاث عشرة مرة، ويكتفى بالاسم المفرد (عيسى) فقط تسع مرات، أو (المسيح) فقط ثلاث مرات، ليكون إجمالى عدد المرات التى ورد فيها الاسم بمختلف تنويعاته ثلاثًا وثلاثين مرة، فهل كانت (الثلاث والثلاثون) هذه إلا إشارة قرآنية لعدد السنوات التى عاشها " المسيح عيسى ابن مريم" على الأرض؟؟!! إن أهل الكتاب يقولون بهذه السن..وهاك أحدهم " الدكتور بترسن سميث" يقول فى كتابه (حياة يسوع) : " هنا تنتهى القصة..وما رواية الإنجيل إلا قصة لثلاث وثلاثين سنة من تاريخ المسيح وحياته وأعماله ..وقبل ثلاث وثلاثين سنة هبط من عالم السماء إلى عالم الأرض طفل صغير ليحيا بين الناس، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة ظلت تلك الأجناد السماوية ترقب فى دهشة حائرة وألم ممض ما صنعه البشر". وبالثلاث والثلاثين يقول أيضًا أهل الإسلام، ولنأخذ مثلا قول حماد بن سلمة، عن على بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، قال : " رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وقول ابن جرير فى تاريخه : " إنه أنزل الإنجيل على عيسى وهو ابن ثلاثين سنة، ومكث حتى رُفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقول أبى اسحق أحمد بن محمد النيسابورى : " أوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه من بيت المقدس إليه ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة..وعلى هذا أجمع أهل الإسلام وأهل الكتاب ..فما الجديد هنا فى هذه السطور ؟ الجديد ..أن المصدر فى هذا التاريخ، ليس إنجيل برنابان على نحو ما قال الدكتور الطيب..وإنما هو القرآن العظيم الذى أورد اسم نبى الله عيسى عليه السلام ثلاثًا وثلاثين مرة . ولعله حرصًا من القرآن على حصر الاسم فى هذا العدد المحدد، تجنب إيراده فى ثلاث مواضع آخرى، أشار إليه فيها بدون ذكر الاسم مُكتفيًا بالكنية..وشتان بين الاسم والكنية . جاء هذا مرة فى سورة المؤمنون: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ]المؤمنون: 50[، وآخرى فى سورة الزخرف: " ولما ضُرب ابن مريم مثلًا إذا قومك منه يصدون ]الزخرف:57[ ، وأخيرًا فى سورة الأنبياء : " والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحها وجعلناها وابنها آية للعالمين ] الأنبياء : 91[ ، فهل كان إغفال الاسم فى هذه المواضع، إلا لتبقى دلالة عدد المرات التى ورد فيها (الثلاث والثلاثين) متطابقة مع عدد السنين التى عاشها عيسى عليه السلام على الأرض؟ الله أعلم، وهل كانت مصادفة أن ترقم الآية التى ينبئ فيها عيسى عليه السلام بموته، بالرقم (33) من سورة مريم : " والسلام عليّ يوم ولدت ويوم اموت ويوم أبعث حيًا ]مريم:33[ ..كلا ..لا مصادفات فى كلام الحكيم الخبير..جل وعلا..وهذا ما يؤكده المنهج القرآنى نفسه مع التاريخ لنبوة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ولوفاته أيضًا .