كنت في الرابعة من عمري, أي من نحو سبعة وسبعين عاما, حين ألحقني أبي, مع أختي الكبري, بمدرسة الراهباتNotredamdesA'Potre بشبين الكوم, ثم ألحق في العام التالي شقيقي المرحوم فاروق, ثم شريف. ومن بعدهما الأختان الصغيارتان الباقيتان من عنقود الأولاد آنذاك. كان النظام الذي التزم به أبي عطية عبده, وهو مسلم شديد الالتزام بالإسلام, ومتنور يفهم الإخاء بين الأديان.. أن تستمر البنات( بناته) في مدرسة الراهبات حتي الحصول علي شهادتها, بينما الصبيان يمكثون لعام واحد ينتقلون بعده إلي المدارس العربية, وقد كان.. مازلت أذكر أن هذا الإلحاق بمدرسة الراهبات ورئيستها الMe're وأعضاء التدريس من الأخوات الراهباتSoeur, كان خاليا من أي حساسيات علي الجانبين, فلا حذرنا أبي أو أمي من أي تهاويم, ولا استغلت المير والسيرات( الأم والأخوات) قيامهن بالتعليم لتلقين ما لا يتفق مع الإسلام. ومازلت أذكر أن سجل أطباء الأسرة, علي كل التخصصات, في ذلك الوقت, كان حافلا بأسماء مسيحية. الدكتور العجوز جورجي ياتريدس, خبير الباطنة( يوناني الأصل), والدكتور نقولا تادرس إلي جانب الدكتور عمر سعد في طب الأسنان, والدكتور ناشد عبدالمسيح والد الزميل صديق العمر أسعد, وبنات الدكتور ناشد, والدكتور رياض سركيس, كل هؤلاء, وبلا أي تفرقة, إلي جوار الدكاترة محمد مبارك ومحمد أبو باشا. لم نعرف تفرقة بين الأطباء مرجعها إلي الانتماء الديني أو الطائفي, وكذلك الصيدليات, وبين المدرسين والأصدقاء. وقتها لم أتوقف لاستقطار الأسباب, فلم يكن في ذلك أي نبو عن مألوف يدعو إلي التساؤل, ولما شببنا عن الطوق, عرفنا مما قرأناه, ثم درسناه فيما بعد وتأملنا فيه, أن محبة السيد المسيح والمسيحيين متجذرة في صفحات وجدان المسلمين في بر مصر, وأن هذا التجذر مستمد من الإسلام نفسه. فقد دلنا مما كنا نتدارسه من الصبا, أن احترام الأديان السماوية جزء لا يتجزأ من الإسلام, وأن هذا الاحترام للأديان فرع علي شجرة أصيلة أقرها القرآن المجيد الذي جعل الإيمان بكل الرسالات أصلا من الأصول الإسلامية.. ففي القرآن الحكيم: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون( البقرة:136, وكذلك في سورة آل عمران آية84 بلفظ قل أمنا بالله). وحين توسعنا في قراءة مدونات الأديان, لم نجد كتابا من الكتب السماوية يتحدث بمثل الحديث الرائع الذي تحدث به القرآن المجيد عن زكريا ويحيي ومريم والمسيح عليهم السلام, نقرأ في المصحف, ونسمع في التلاوات في الإذاعة, وفي المساجد, وفي التعازي, من آيات القرآن في هؤلاء الأنبياء الأحباء: إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم, فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثي والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثي وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم, فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب, هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء, فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيي مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين( آل عمران:35 39).. وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين( آل عمران42).. إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين, ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين( آل عمران:45 46).. وقفينا بعيسي ابن مريم وآتيناه الإنجيل( الحديد:27).. إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم( النساء:171).. ولقد آتينا موسي الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسي ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس( البقرة(87). وعرفنا مما عرفنا القرآن المجيد, المنزلة الرفيعة, والتأييد الإلهي لكل من السيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام, وتابعنا هذه الرعاية الإلهية منذ الحمل فيه حتي رفعه الله بآيات معجزات هائلات: حمل مريم فيه بغير أب, وكلامه في المهد, وجعله الماء خمرا في عرس قانا الجليل, وتصويره الطين علي هيئة طير ونفخه فيه فتكون طيرا بإذن الله, وابراؤه الأكمه والأبرص, وإحياؤه الموتي بإذن الله, وإخباره بني إسرائيل بما يأكلون وبما يدخرون في بيوتهم, ومع ذلك أحس عيسي منهم الكفر, ومكروا لصلبه وقتله ومكر الله والله خير الماكرين: إذ قال الله ياعيسي إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا( آل عمران55). وعن جذور هذا الإخاء, وهذه المحبة في بر مصر, بين المسلمين والمسيحيين, بخلاف اليهود الذين أنكروا وتنمروا وشنفوا للسيد المسيح, ثم لمحمد المصطفي رسول الإسلام, هذه الجذور قد أخبر بها القرآن الحكيم, وتلقيناها عنه من الصغر, فجعلنا نقرأ ونتلو ونسمع قول الحق عز وجل: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون, وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين المائدة:83,82). درجنا إذن علي محبة السيد المسيح والمسيحيين, وتعلمنا علي مر الزمن, ومراجعة ما ورد في الأناجيل الخمسة, وفي القرآن الكريم, أنه لا عداوة بين الإسلام والمسيحية, فالمسيحية قوامها المحبة والسلام, والإسلام يحترم جميع الديانات, وينبذ كل أنواع العصبية, وهي عدوة السماحة والإسماح, يقول الله تعالي: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم( الحجرات:13), وفي الحديث: كلكم لآدم, وآدم من تراب, إن أكرمكم عند الله أتقاكم, يتسامح الناس, ويتسامح المتدينون, حين يدركون أن أصلهم واحد, وأن انتماءهم إلي شجرة واحدة, إلي ذلك لفت القرآن الكريم, حين نوه في العديد من آياته إلي أن الناس جميعا ينتمون إلي أصل واحد ونفس واحدة: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء( النساء:1).. وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة( الأنعام:98).. هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها( الأعراف:189).. هذا التنبيه القرآني المتكرر إلي أصل الإنسانية الواحد, تنهدم به نعرات العنصرية والعصبية, وتتسع الباحة الإسلامية الوارفة إلي الناس جميعا علي سنة الهداية والإسماح.. لا معيار للمفاضلة إلا بالعمل والتقوي: وأن ليس للإنسان إلا ما سعي, وأن سعيه سوف يري( النجم:40,39). لم يحضنا الإسلام في الإيمان به أو الدعوة إليه, علي مخاصمة الأديان أو أهلها, ورأينا رسول القرآن صلي الله عليه وسلم يتزوج ويبني بصفية اليهودية وبماريا القبطية المصرية أم ولده إبراهيم الذي رحل عن الدنيا طفلا, وقرأنا ونقرأ ونتعلم من القرآن أن طعام أهل الكتاب والزواج من الكتابيات حل للمسلم, لا تحريم فيه ولا تثريب عليه: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم( المائدة:5). من يستقطر التقاليد المصرية يجد هذه المحبة متجذرة في أصواتنا المصرية, إسلامية كانت أو مسيحية, ويلحظ أنه فضلا عن توقير القرآن للأنبياء جميعا, وللسيد المسيح عليه السلام خاصة, فإنه قد ترسخ في نفوس المسلم دلالة تسمية سور كاملة في القرآن الحكيم بأسماء الأنبياء السابقين وأسرهم, من مثل سور: نوح, وإبراهيم, ويونس, وهود, ويوسف, ومريم, وآل عمران, لذلك فقد شببنا لا نفرق بين المزارات الإسلامية والمزارات المسيحية, وظلت السماحة المصرية حاضنة رءومة لهذه المحبة, تراها في المزارات المسيحية التي صارت أيضا مزارات للمسلمين في مصر, مزارات سانت كاترين, والقديس مار جرجس, والقديسة دميانة بالدقهلية, وسانت تريز بشبرا, ودير المحرق بأسيوط وغيرها, مزارات مسيحية يوقرها ويزورها ويتبرك بها المسلمون. إن ما أتبادله الآن من تهان مع الأحباب والإخوة والأصدقاء والزملاء والجيران المسيحيين, ليس من قبيل أداء الواجب, وإنما هو تعبير صادق صادر من الأعماق عن هذه الأواصر, والوشائج الحميمة, ونابع مما نحمله في صفحات وجداننا من محبة المسيح.