هذه تجربة سينمائية مختلفة، تحاول أن تقول أشياء هامة عن أحلام البنات وواقعهن الصعب، وسط ثنائية معقدة، حيث تعيش بطلة الحكاية وشقيقتها في مدينة الزقازيق، في قلب أسرة ومجتمع محافظين ، ولكنهما من خلال الموبايل تنفتحان على عالم الحلم المتسع، وعبر هذه المسافة، وذلك الصراع تُنسج قصة حافلة بالتفاصيل والمشاعر والأحاسيس، دون تجميل أو تزويق. لا يعني ذلك أنه لا توجد ملاحظات على الفيلم، لأن لديّ بالتأكيد تحفظات على الشكل وبناء الشخصيات .. إلخ، ولكننا عموما أمام فيلم طموح، يخرج من القاهرة الى الأقاليم والهوامش، وتلتقط فيه الكاميرا ألوان وأجواء الأماكن والحالات، ويقدم فيه الممثلون غير المحترفين مستويات مدهشة من الأداء الطبيعي البسيط، الذي نادرا ما نراه في أفلامنا، وكلها عناصر هامة جديرة بالتنويه والحفاوة. أتحدث عن فيلم "سعاد"، من إخراج آيتن أمين، التي اشتركت أيضا في كتابته مع محمود عزت، وهو فيلمها الروائي الطويل الثاني بعد فيمها الأول المميز" فيلا 69″، وكان فيلمها الثالث الأقل مستوى بعنوان " آل شنب" . ولكن فيلم "سعاد"، وهو إنتاج مصري ألماني تونسي مشترك، كان من اختيارات مهرجان كان الرسمية في العام 2020 ، وحصل على بعض الجوائز في مهرجانات عالمية، وحصد إشادات نقدية أجنبية كثيرة، ورغم ذلك تأخر عرضه في مصر، بسبب خلافات قانونية بين صنّاعه، ثم عرض أخيرا مرة واحدة في سينما زاوية، وعرض كذلك ضمن برنامج الفيلم الأفروآسيوي في نفس السينما، وشاهدته في تلك المرة الأخيرة مع فيلم آيتن أمين القصير الأول " ربيع89″، وهو فيلم يرتبط بعالم فيلم "سعاد" بشكل واضح. "سعاد" حكاية تبدو بسيطة ومحدودة، ولكنها تعبّر عن عالم بأكمله، فتاة من الزقازيق، طالبة من أسرة محافظة، ولكنها حالمة، نراها في أول الفيلم وهي تكذب مدعية في الميكروباص أنها مخطوبة لضابط، وفي ميكروباص آخر تدّعي أنها مخطوبة لطبيب جرّاح ! محيطها محدود لا يتجاوز شقيقها رباب التي تعرف كل أسرارها، وبالذات علاقة سعاد من خلال الموبايل مع شاب اسكندراني تحبه، يدعى أحمد ، ويصنع فيديوهات تحقق تفاعلا كبيرا، وقد تطوّرت حكاية سعاد وأحمد الى درجة أنها أرسلت له صورا جريئة، وكانت تعليقاته على الصور سببا في صدمة سعاد، وغضبها منه. تبدو سعاد متأرجحة بين جرأة الحلم عبر الموبايل، وبين واقعها البسيط المحافظ، تصلي سعاد أحيانا، ثم تترك الصلاة، نراها شقية وجريئة، ثم نراها وهي تبكي نادمة، أما صديقاتها فهن أيضا تعشن عالم الأحلام، إحداهن تدخن، وكلهن لديهن اهتمامات بالرجال والزواج، وسعاد الطالبة الجامعية قلقة أيضا من تعثرها العلمي، وتخشى أن ترسب في الإمتحان. تنقلب الأحداث العادية بواقعة غريبة، إذ تسقط سعاد فجأة من البكونة وتموت، يبدو الحدث غامضا، وتبدو رباب أقرب الى اعتباره انتحارا، وعندما تحصل على موبايل شقيقتها، تقرر أن تسافر الى الإسكندرية لمقابلة أحمد، وهناك تبدأ قصة إضافية، حيث يرى فيها أحمد طيف ذاكرة ضائعة مع سعاد التي أحبها فعلا، ونراها وكأنها سعاد جديدة تحقق مع أحمد ما لم تحققه شقيقتها، وفي نهاية الزيارة، تقبّل رباب أحمد بدلا من سعاد، وتترك له رسالة صوتية تحمل أغنية من شقيقتها سعاد. مثل فيلم "ربيع 89″، نجد أنفسنا أمام علاقة مزدوجة بين فتاتين وشاب وأحد، ولكن حكاية الفيلم القصير كانت عن صديقتين، وفي الفيلمين أيضا هناك اختبار للحلم والواقع في حياة البنات، بل إن سؤال إحدى بطلتي فيلم "ربيع 89″هو : "هل الحلم أفضل أم الواقع؟". في فيلم "سعاد " نشعر بأن رباب تحقق مالم تحققه سعاد، وهي الأكثر جرأة وعملية وواقعية وقدرة على تحقيق حلم شقيقتها، ورغم أن رباب وحكايتها مع أحمد أقوى دراميا من حكاية أحمد وسعاد، إلا أن الفيلم يحمل اسم سعاد، وكأنها ليست مجرد شخصية، وإنما هي فكرة الحلم المستمر حتى بعد موتها، والتي ستحاول رباب أن تحققه بعد ذلك مع أحمد. معالجة مبتكرة لثنائية الحلم والواقع اللامعة، ورحلة للخروج من شوارع الزقازيق ذات الطابع الريفي المحدود، الى بحر الإسكندرية، وعالمها الواسع، وفارق السنوات القليل بين رباب وسعاد يجعلنا أمام نفس الجيل، ولكن بتنويعة أخرى، ولكن رباب ابنة السادسة عشرة يحركها دافعان معقدان : الأول هو نقل رسالة شقيقتها الراحلة الى أحمد، والثاني هو اكتشاف مشاعرها هي نفسها كأنثى، وبالتالي تبدو رباب أكثر ثراء من شخصية سعاد، لدرجة أنني ما زلت أعتقد أن سرد الفيلم كله من وجهة نظر رباب كان سيبدو أفضل وأقوى دراميا. أما أحمد فهو أيضا معلّق بين الحب والرغبة، بين عاطفة سعاد، وخطيبة يفترض أن يتزوجها، وهو أيضا ابن هذا الجيل الذي يجمع بين الحلم والواقع، وإن كانت حرية الرجل بالطبع، وقدرته على التكيّف، أكبر بكثير من حرية النماذج النسائية التي شاهدناها، سواء عند سعاد ورباب، أو فيما يتعلّق بصديقات سعاد. لكن فيلم "سعاد" ليس هو فقط خطوط الحكاية، وفكرتها الهامة، ولكنه بالأساس هو هذه الطريقة الواقعية المباشرة في التعبير عنها، والتي منحت الفيلم طابع السينما التسجيلية، وكأن الكاميرا التي تتابع الشخصيات، وتسير خلفهم، وتهتز داخل السيارة، ليست إلا كاميرا موبايل متلصصة على عالم غامض. لا توجدى تكوينات متوازنة ومنسقة، ولا جماليات في الصورة، ومصادر الإضاءة في المكان هي الدليل، ولدينا مشاهد بأكملها تغرق في الظلام، والشوارع والأماكن بحالتها دون تجميل، والممثلون ليسوا محترفين، ولكنهم يقدمون أداء رائعا، وخصوصا بسنت أحمد في دور سعاد، وبسملة الغايش في دور رباب، و كأنهما ولدا في المكان، وكذلك كل صديقات سعاد، وكان أداء حسين غانم في دور أحمد أيضا جيدا ومميزا، ولا شك أن دور آيتن مخرجة الفيلم أساسي في تحقيق هذا النجاح الكبير في الأداء. أهدت آيتن أمين فيلمها "سعاد" لمخرجي الواقعية الجديدة المصريين الذين أحبت أعمالهم من محمد خان ورأفت الميهي وعاطف الطيب وخيري بشارة الى داود عبد السيد، ولكنها اختارت حدود الواقعية القصوى، وأعتقد أنه اختيار مناسب، ولكنه كان أحيانا يفسد المشاهدة، فمن المقبول بالتأكيد أن نسمع ضوضاء الشارع، ولكن بمالا يشوش على سماع الحوار. في بعض المشاهد لم أكن أسمع أو أفهم ما يقال، وهو أمر لا مثيل له حتى في الأفلام التسجيلية، فالواقعية تحترم مصادر النور في المكان، ولكنها لا تعني إفلات التأثير الدرامي لحساب هذه الظروف المكانية، فليس معقولا في مشهد مثلا بين أحمد ورباب هو مشهد القبلة، ليس مقبولا أن يكون الاثنان في الظلام بشكل شبه كامل، فنفتقد تعبير الوجهين ، ورؤية ملامحهما في هذا المشهد الهام. في تقديري أيضا أن بناء علاقة سعاد ورباب لم يقدم بصورة جيدة وكافية، ولم تقدم رباب بالذات بصورة قوية في الجزء الأول من الحكاية، هي مركز ثقل الدراما كلها وليست سعاد، بالإضافة الى ظهور والد سعاد ورباب مثل شبحين عابرين تماما، مع أن حضورهما وتأثيرهما ضروري للغاية لرسم معالم أسرة سعاد المغلقة، وليس معقولا أن يكون حضور الأم بشراء الخضار مع ابنتها فقط، ولم أفهم أبدا معنى ظهور الأب العابر في مشهد واحد قبل موت ابنته. لدي أيضا ملاحظة أساسية، وهي غموض سبب سقوط سعاد من البلكونة، ربما أراد السيناريو أن يجعله مفتوحا وغامضا ورمزيا أيضا، لا بأس، ولكن اختيار سبب محدد متعلّق بحكاية سعاد وأحمد مثلا، أو حتى بنتيجة الإمتحان، كان سيجعل لقاء أحمد ورباب منطقيا وقويا للغاية، وكان سيثري الدراما كثيرا، وقد أشارت الأم في مشهد سريع الى فحص عذرية ابنتها بعد وفاتها، للإطمئنان على شرفها، وهو خط هام كان سيصنع أبعادا هاما لمأساة سعاد لو تم تعميقه. بدا لي غريبا أيضا سهولة إقناع رباب والدها تليفونيا ببياتها خارج المنزل، وأغرب من ذلك، ذهاب رباب مع أحمد ببساطة وسهولة الى شقته، وكلها تصرفات لا تتسق أبدا مع بناء شخصية رباب. ولكننا في النهاية أمام عمل هام يستحق المشاهدة، ويفسده تماما أن تقارنه بما تعرفه من أفلام واقعية، ذلك أنه مغامرة مختلفة، بالذات على مستوى الشكل والإيقاع، مما يؤكد موهبة آيتن أمين كمخرجة تريد أن تضيف لا أن تكرر، ومما يؤشر الى طوفان المواهب الذين صنعوا الفيلم، بالذات في مجال التمثيل، والتصوير ( ماجد نادر)، والمونتاج (خالد معيط). نظلم فيلم "سعاد" إذا قرأناه باعتباره فقط عن تأثير التكنولوجيا على حياة البنات في مجتمع محافظ، لأن أيضا وبالأساس عن أحلام البنات التي تتحول الى كوابيس، وعن سقوط الأحلام، قبل سقوط سعاد من بلكونتها العالية في مدينتها الصغيرة.