مع اقتراب انتخاب مجلس النواب الجديد بعد انتهاء المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية التى تبدأ جولتها الأولى اليوم، فإن مصر تكون قد استكملت الاستحقاق الثالث والأخير من خريطة المستقبل التى أقرتها القوى الوطنية فى 3/7 قبل عامين بعد انحياز الجيش لثورة الشعب فى 30/6، ومن ثم يبدأ مجلس النواب الجديد فى ممارسة دوره الدستورى ومهامه البرلمانية.. تشريعًا ورقابة قبل نهاية شهر ديسمبر المقبل أى قبل نهاية العام الحالى باعتبار أنه برلمان 2015.لعله لا يخفى فإن هذا البرلمان الجديد سوف يكون مختلفًا تمام الاختلاف عن كل المجالس النيابية السابقة وذلك لأسباب واعتبارات كثيرة.. أولها أنه يجىء بعد الأحداث الكبرى والظروف العصيبة والتحولات التاريخية التى شهدتها مصر خلال الخمسة أعوام الأخيرة بعد ثورتين.. ثورة 25 يناير عام 2011 التى أسقطت نظام مبارك ثم ثورة 30 يونيو عام 2013 التى أسقطت حكم جماعة الإخوان وصححت مسار الثورة الأولى وحالت دون إسقاط الدولة المصرية وجنبت المصريين الانزلاق إلى أتون حرب أهلية كانت تلك الجماعة تتجه لإشعالها. ومن ثم فإنه بانعقاد مجلس النواب الجديد والذى يعد وبحق أول برلمان تجرى انتخاباته بحيدة ونزاهة وشفافية غير مسبوقة فى تاريخ الحياة السياسية والنيابية المصرية خلال الستين عامًا الماضية.. بانعقاد المجلس فإن مصر تكون قد استوفت بناء الدولة الديمقراطية واستكملت بناء المؤسسات الدستورية لتبدأ مرحلة سياسية جديدة فى تاريخها الحديث.. إيذانًا بانطلاق مسيرة التنمية والبناء وبما يكفل حياة كريمة وعدالة اجتماعية للمصريين فى حاضرهم وبما يضمن مستقبلاً أفضل لأجيال قادمة.ان انعقاد البرلمان الجديد المنتخب انتخابًا ديمقراطيًا مشهودًا بنزاهته سيكون بمثابة رسالة قوية وواضحة الدلالة يبعث بها شعب مصر إلى المجتمع الدولى تدحض كل الافتراءات وتجهض كل المؤامرات التى تعرضت لها مصر بعد ثورة 30 يونيو وإسقاط حكم الجماعة الإرهابية، وهى رسالة تؤكد أيضًا أن ما حدث فى مصر قبل عامين لم يكن انقلابًا عسكريًا بل كانت ثورة شعبية انحاز لها الجيش الوطنى مثلما انحاز قبلها إلى ثورة 25 يناير. ثم إنها رسالة لا تخفى دلالتها فى هذا التوقيت على وجه التحديد بعد العملية الإرهابية البشعة التى تعرضت لها فرنسا الأسبوع الماضى على أيدى «داعش» وهو الأمر الذى يؤكد سلامة موقف مصر.. شعبًا وجيشًا وطنيًا حين أسقطت حكم جماعة الإخوان.. الأم الكبرى ل «داعش» وغيرها من التنظيمات الإرهابية. الأمر الآخر الذى يؤكد اختلاف هذا البرلمان عن كل البرلمانات السابقة هو أن خريطته السياسية والحزبية لا تزال غامضة ولم تتضح معالمها وتضاريسها بعد ولن تتضح إلا لاحقًا وبعد أن يبدأ فى ممارسة مهامه فعليًا ووفقًا لما سيجرى من تكتلات وتحالفات جديدة داخل المجلس، خاصة فى ضوء غيبة مؤكدة لأية أغلبية تحظى بها أى من الأحزاب الممثلة فيه، وهى خصوصية يتسم بها هذا البرلمان بل لعلها ميزة نسبية فى هذه المرحلة. ولعل تشكيل هذا البرلمان فى غيبة حزب للحكومة أو بالأحرى لرئيس الجمهورية لهو أمر من شأنه أن يضفى خصوصية أخرى على هذا البرلمان.. من المؤكد أنها ستكون ميزة كبرى، إذ سوف يكون متحررًا من أية قيود حزبية ومن ثم يمارس مهامه التشريعية والرقابية بحرية كاملة وبتجرد وطنى خالص لإرساء دعائم الدولة الديمقراطية وذلك من بين التحديات أمام هذا البرلمان.ثمة تحديات أخرى سيواجهها البرلمان الجديد هى فى حقيقتها مآزق دستورية تتطلب حلولاً دستورية أيضًا فى مقدمتها اللائحة الداخلية الجديدة فى ضوء الدستور الجديد، إذ أنه من غير الدستورى أن تضع الحكومة (السلطة التنفيذية) هذه اللائحة للبرلمان الجديد (السلطة التشريعية) ولعل لدى المحكمة الدستورية حلاً للخروج من هذا المأزق. المأزق الآخر والأكبر يتعلق بأكثر من ثلاثمائة قرار جمهورى بقانون صدرت فى غيبة البرلمان ويتعين عليه إقرارها أو تعديلها خلال المدة المحددة فى الدستور بأسبوعين فقط من تاريخ انعقاد أولى جلساته وهو أمر من المستحيل تحقيقه وهو مأزق بالغ الأهمية يتطلب أيضًا حلاً دستوريًا.وفي نفس الوقت فإن مجلس النواب الجديد سيكون لديه مهام بالغة الضرورة وتتطلب جهدًا كبيرًا وإنجازًا سريعًا لترجمة مواد الدستور الجديد إلى تشريعات فى مقدمتها ما يتعلق بالاقتصاد والاستثمار، ومن أهمها أيضًا إنجاز التشريعات الخاصة بالصحافة والإعلام لتشكيل الهيئة الوطنية للصحافة المملوكة للدولة والتى تحل محل مجلس الشورى السابق وكذلك المجلس الوطنى للإعلام والصحافة والذى يحل محل المجلس الأعلى للصحافة الحالى ثم الهيئة الوطنية للإعلام المملوك للدولة، وهى تشريعات يتعين إصدارها على وجه السرعة ودون إبطاء. إن إصدار هذه التشريعات من شأنه مواجهة الكثير من الفوضى والاضطراب والخلل والذى وصل إلى درجة الانفلات والخروج على التقاليد والمواثيق والأعراف الصحفية والإعلامية، وهو الأمر الذى بات يمثل خطرًا على الاستقرار السياسى والسلام الاجتماعى، ثم إن الإسراع بإصدار قانون الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام من شأنه التصدى لخطر انهيار الصروح الصحفية والإعلامية نتيجة تراكم المشكلات المالية والاقتصادية عبر السنوات السابقة وفقًا لاستراتيجية علمية مدروسة لإنقاذ تلك المؤسسات والتى تعد إحدى أدوات وأسلحة الأمن القومى المصرى بقدر ما تُمثِّل إحدى القوى الناعمة لمصر. ومن الضرورى أن تكون السياسة الخارجية المصرية وعلاقات مصر الدولية فى مقدمة اهتمامات البرلمان الجديد وهى مهمة لا تقل فى هذه المرحلة عن مهامه التشريعية، إذ يتعين عليه التواصل مع برلمانات العالم خاصة فى أوروبا وأمريكا لإطلاعها على حقيقة الأوضاع فى مصر، وهى مهمة سوف تتوافر لها أسباب النجاح باعتبار أن من يقوم بها برلمان منتخب وهو أمر يحظى باحترام البرلمانات فى الدول الديمقراطية.ان انعقاد برلمان 2015 يؤكد ديمقراطية الدولة المصرية الحديثة بعد ثورة 30/6، ويبقى الرهان على نجاح هذا البرلمان فى تجاوز التحديات وعلى إنجاز مهامه البرلمانية.. تشريعًا ورقابة.