فى التجارب الديمقراطية الحقيقية هناك مفهوم سياسى منضبط للمعارضة.. وفى الأثر الإسلامى هناك اعتراف بالمعارضة وتأصيل شرعى لها تمت ممارسته عمليا، وفى سيرة الحاكم العظيم الفاروق عمر ما يؤكد قبوله الآراء المعارضة، بل هو الذى نبه الرعية فى خطبته الأولى بعد توليه الحكم لمعارضته فى قولته المشهورة: «فإن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى». وفى الأثر أيضا أن المعارضة اشتدت على عمر من جند الخلافة الفاتحين لمصر والشام حتى استجار بالله من شدة المعارضة.. لكنه عمر، ودولة عمر النموذج والمثال، ولا أريد من إيرادهما أن أشق على حاكم أو محكوم بطلب إتباعهما ليس لأن الزمن تغير بتغير الظروف ولكن لأن فى المثال ما يشبه ضرب من ضروب الخيال الذى يتأبى على الواقع.(1) .. معادلة الحكم الديمقراطى يشكلها طرفان: حكومة ومعارضة، وفى سنوات تجربة الدولة المصرية الحديثة التى يؤرخ لها مع تولى محمد على الحكم فى عام 1805 عرفت مصر الإرهاصات الأولى للمعارضة المنظمة فى إطار نظام سياسى، وكان ذلك من خلال إنشائه لمجلس المشورة الذى تكون من كبار التجار والأعيان والعُمَد والمشايخ والعلماء، وكانت وظيفة المجلس الأساسية - كما أخبرنا التاريخ - إبداء الرأى فى المسائل الإدارية العامة دون أن يلزم الحاكم نفسه بها.. لماذا؟! لأن محمد على كان حاكما لا يؤمن بالديمقراطية، ولا تمنع شهادتنا له بعظم الإصلاحات التى أجراها، وتأسيسه لقواعد الدولة الحديثة من الإقرار بأنه كان ديكتاتورًا، والغريب المستنكر أن هذا النموذج من الحكام يفضله ويطلبه نفر ليس بقليل من المصريين، ومن هؤلاء من تسمعه يردد على مسامعك نريده ديكتاتورًا عادلاً (يقصدون الحاكم أو الرئيس) ويرى هذا النفر فى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تجسيدا لهذا النموذج، وما طلب المصريون فى سنواتهم الحديثة هذا النموذج من الحكام إلا اشتياقًا منهم لتحقيق العدالة الاجتماعية التى غابت سنوات طويلة، أو قل حضرت سنوات قليلة فى تاريخ المصريين. وإذا فكرت معى قليلاً فى مفهوم «الديكتاتور العادل» الذى استقر فى أذهان المصريين فسوف تجده هذا الشخص الذى يفرض العدالة الاجتماعية بقوة شخصيته وشجاعة قراراته التى يفرضها على الجميع، فلا يضعف أمام فئة فيمنحها ميزات دون الآخرين، ولا تقف جماعات ضغط - مهما بلغت قوتها - أمام إرادته فى فرض هذه العدالة. وهكذا استبدل المصريون ديكتاتورية القانون بديكتاتورية حاكم فرد اختزلوا فى شخصه الدولة وحضورها.. وهذا فى رأيى نوع من أنواع المراهقة الفكرية وكسل الإرادة، يمكن أن نردها إلى موروث جينات الفكر المصرى الممتد إلى عهود الفرعون والفرعونية التى عرفت الحاكم الإله وقدسته واعتبرت معارضته تمردًا على المشيئة المقدسة، فلما عرف المصريون الإله الحق وأفردوه بالوحدانية غاب الحاكم الإله من خيالهم السياسى، وحل محله الزعيم الملهم الكاريزماتى الذى رأى أيضا فى معارضته نوعًا من أنواع الخيانة لشخصه وربما للوطن. (2) وتجارب الحكم القاصرة لابد أن تنتج معارضة قاصرة، هذه أيضا نظرية أثبتها التاريخ، وانسحبت على واقعنا، ولن نذهب بعيدًا يكفى أن ندرس المسببات التى قادت إلى حركة الجيش فى 23 يوليو 1952 ، وأبرز هذه المسببات كان فساد الحياة السياسية التى تنازعتها ثلاثة قوى متنافرة هى القصر والأحزاب والمستعمر (الإنجليز) ودخل ثلاثتهم فى صراع مصالح لم يراع مصالح الدولة المصرية بما فيها مصلحة الشعب واحتياجات المواطن الأساسية لحياة كريمة، وليس أدل على إثبات صحة هذا الرأى من ترحيب الشعب بحركة الضباط الأحرار الإصلاحية، وتأييده لها، وفرحته العارمة بها، ووصول هذه الفرحة إلى ما يشبه الهستيريا مع بزوغ شخص الزعيم عبد الناصر النموذج الفذ للدكتاتورية العادلة، ولما كان هذا النموذج صعب التكرار فقد أدخل خلفه السادات (وكان يؤمن بنفس نظرية سلفه فى الحكم) بعض التعديلات على النموذج، وحاول اكتساب شرعيته وشعبيته من خلال صبغ حكمه بالصبغة الدينية وأوعز للدعايات أن تناديه بالرئيس المؤمن بديلا للزعيم الملهم. وعلى الرغم من أن السادات أعاد الحياة الحزبية وأظهر أنه يؤمن بالتعددية والديمقراطية إلا أنه ونظامه عملا على تدجين المعارضة وإدخالها حظيرة النظام، وولدت الأحزاب فى عهده مبتسرة ومضت فى حياتها ناقصة النمو لا تملك حق الحلم بالمنافسة الحقيقية على الحكم أو التعبير عن رؤى وطنية مغايرة لرؤية الحاكم ونظامه، وظل الأمر على ما هو عليه مع سنوات حكم مبارك الطويلة التى أسنت فيها مياه السياسة ثم علا وجهها العفونة حتى استدعت هبة شعبية فرح لها أيضا المصريون مثلما فرحوا من قبل بحركة الجيش فى عام 1952. (3) وبعد ثورة يناير 2011 استبشر طلاب التغيير خيرًا وأسرعوا فدفعوا بالإسلاميين للحكم وقد كان حضورهم فى السنوات السابقة للثورة بديلا عن المعارضة المنظمة فلما وصل الأخيرون للسلطة ومارسوها عمليا ضربوا بنظرياتهم الطوباوية عرض الحائط ولم نر منهم ترجمة عملية لتراثهم النظرى عن الشورى وتعدد الاجتهادات وكلامهم عن المعارضة ووصفها حقيقة إسلامية، لقد نسوا أو تناسوا وتذكروا فقط السعى للسيطرة والاستحواذ وإحلال أشياعهم وجماعتهم محل الآخرين وبرروا سلوكهم هذا بأنهم يستردون حقوقهم التى افتقدوها لسنوات طويلة، وبعد أن كانوا يتاجرون بمظلوميتهم ما لبثوا أن ظهرت عليهم أمارات ظالميهم فى السيطرة والاستحواذ ومخايل العنجهية، فكانت هذه أخطاءهم الجوهرية التى نجح خصومهم فى اصطيادهم منها وإقناع الناس بالخروج عليهم فى ثورة 30يونيو 2013 وانتزاع السلطة منهم بعد رفض رؤوسهم الاحتكام للشعب وصناديق الديمقراطية ورؤيتهم الحقيقية لها، إنها فعل مؤثم وسلوك غريب على الإسلام لأنه منسوب للغرب الكافر. (4) لقد غابت المعارضة المنظمة فى سنوات مبارك، قبل أن تظهر على استحياء فى سنوات حكمه الأخيرة فى وسائل الإعلام (بعض الصحف والفضائيات) التى أجبر الغرب النظام على التصريح لها بالصدور وممارسة هذا الدور، وتزامن مع هذا ظهور حركات الاحتجاج المدنى مثل كفاية والجبهة الوطنية للتغيير، ثم زادت وتيرة الاحتجاجات الشعبية لتبلغ ذروتها مرتين فى غضون ثلاث سنوات، ومع إدراك غالبية المصريين للأخطار التى تتهدد دولتهم راحوا يبحثون خلال هذه السنوات عن قائد يصطفون خلفه ليعبر بهم بحر الرمال المتحركة الذى تموج به المنطقة العربية وليس مصر فقط، ووجدوا هذا القائد فى شخص الرئيس السيسى، وثمنوا سعيه فى الاعتصام بالوطن والحفاظ على الدولة، والخروج بمصر من النفق المظلم الذى دخلته رغما عنها بعد سنوات الثورة والاضطراب، وكل ما سبق مهمات وطنية نذر السيسى نفسه لها من منظور العسكرية كجندى فرض عليه القتال والثبات فى ميدان المعركة لأن غير ذلك خيانة دونها الموت، ووصف دور السيسى على هذه الكيفية، ليس من عندى ولكنه استنتاج أثبتته تصريحاته وأحاديثه، التى تعكس قناعاته التامة بهذه المهمة، ومع هذا الشعور لابد أن يستاء الرجل من رعونة بعض العبارات والأحاديث الصادرة عمن يلعبون فى الفضائيات دور المعارضة البديلة، هذا الدور الذى قبله منهم الناس أيام مبارك والإخوان، وحازوا هم من خلاله على الشهرة والعائد المادى الكبير فطاب لهم أن يتزيدوا فى أداء أدوارهم فيرفع البعض منهم عقيرته بالصياح أو يزيد من حدة ألفاظه حتى تصل إلى حد الشتم والبذاءة، وتحولت بذلك مهمتهم الإعلامية من التخديم على القضايا الوطنية إلى التبارى فى أداء عروض كلامية تزيد من نسبة المشاهدة فتدر لهم مزيد من الربح والنجاح الزائف. وفى انتظار أن يحد البرلمان القادم من هذه الظاهرة بانتقال دور المعارضة إليه وممارستها بشكل مؤسسى، نرجو أن تفرز الحياة السياسية من خلال الأحزاب والبرلمان معارضة وطنية مسئولة تتقاسم مع الحاكم قضايا الوطن، وتتجاوز بالتجربة السياسية المصرية سنوات المراهقة، ولن يحدث هذا إلا برعاية مباشرة من الرئيس السيسى أيضا.