فى صباح السابع من أكتوبر1973 كنت متوجهًا إلى مدرستى الثانوية وعلى وجهى ملامح حزن لا تخفى على أحد، وعندما التقيت ببائع الجرائد - وكان يعرفنى - سألنى عن سبب ما أنا فيه، فأبديت خوفى من كثرة من سيموتون فى تلك الحرب التى أندلعت وقتها بيننا وبين العدو الإسرائيلى، فبادرنى مستنكرًا: أنت لك كام أخ؟.. فأجبت: نحن أربعة ذكور، فعقب: ماذا لو بقيتم ثلاثة أو إثنين فقط؟ واستكمل.. يا ابنى هل نترك الأعداء يحتلون أرضنا؟ وماذا لو ضحينا ببعض منا فى سبيل تحريرها، ثم ألا تعلم أن لكل أجل كتاب؟.وقتها شعرت بالخجل الشديد وسارعت بالهرب وأنا أهز رأسى بالموافقة، ولمت نفسى كثيرًا.. كيف أفكر فى سلامة شقيقى الضابط بالقوات المسلحة وقتها وأنسى أن بلدنا محتل ويجب تحريره.. كيف نبخل على وطننا بأنفسنا؟! لقد أعطانى هذا الرجل البسيط وقتها «درسًا» واقعيًا فى الوطنية، وأنها ليست كلمات وأغان وإنما هى شعور متجذر وإحساس متدفق واستعداد للتضحية بالغالى والنفيس فى أى وقت.. فمصر ليست مجرد بلد نعيش فيه، وإنما هى وطن يعيش فينا. لقد كانت هذه الواقعة سببا فى أننى مازلت أحفظ موضوع الإنشاء الذى كتبته فى امتحان اللغة الإنجليزية بالثانوية العامة، وقد كانت ترجمته بالعربية «أننا لن ننسى إلى الأبد يوم 6 أكتوبر 73 حيث عبرت قواتنا المانع المائى الصعب ودحرت قوات العدو وحررت الأرض المغتصبة.. إلخ. والآن.. ونحن نحتفل بالذكرى الثانية والأربعين لهذا اليوم العظيم.. وبعد أن جرت فى النهر مياه كثيرة.. وتغيرت أوضاع وتبدلت أحوال.. ما أحوجنا لروح أكتوبر.. حيث الالتفاف الوطنى على هدف محدد وتعبئة عامة للمجتمع لتحقيق ما نطمح إليه ولكن نحن لدينا مشكلة.. نتحمس لشىء ما ونجتهد فى تحقيقه.. ثم تعود ريمة إلى عادتها القديمة! فقد عادت «روح أكتوبر» للمصريين عندما توافقوا على إسقاط حكم الإخوان، وعادت تلك الروح مرة أخرى عندما قرر المصريون الاعتماد على أنفسهم فى حفر التفريعة الجديدة لقناة السويس وجمعوا فى أقل من ثمانية أيام أكثر من 63 مليار جنيه لتوفير التمويل المطلوب لعملية الحفر واحتفلنا جميعًا - وبمشاركة عالمية وعربية - بالإنجاز وتحقيق ما رغبنا فيه، ثم وكأن السبحة فرطت منها حباتها! فنحن على وشك تحقيق الإنجاز الأخير من خارطة الطريق.. وهو إتمام الانتخابات البرلمانية وتشكيل مجلس النواب الجديد.. ولكن ما يحدث على أرض الواقع على خلاف ما هو مطلوب، انقسامات بين المتحالفين، وانسحاب من قوائم، واعتراضات على قوائم أخرى.. وكل ذلك يتم فى غرف مكيفة بعيدًا عن الشارع وعن الناخبين الذين سوف يختارون من يمثلهم فى البرلمان. نعم هناك مواعيد وإجراءات للدعاية الانتخابية ولكن أين العمل المتواصل مع الناس فى الشارع؟ ماذا عن المبادرات المجتمعية للأحزاب الراغبة فى دخول كوادرها المجلس التشريعى؟ لماذا لا تقدم «أمارة» للناخب لكى يختار مرشحيها طالما غابت البرامج أو لم تشرح للناخب بالقدر الكاف؟ فلا يخفى على أحد أهمية «حسن الاختيار» لأعضاء البرلمان القادم، حيث ينتظره كم هائل من التشريعات واجبة الإقرار والتى صدرت فى غيبته أو التشريعات الجديدة المطلوبة على وجه السرعة لتنظيم قطاعات عديدة فى الدولة ومنها قطاع الإعلام على سبيل المثال. للأسف فقد أعتمد الكثير من المرشحين فى القوائم وكذلك الفردى على شهرتهم السياسية أو الإعلامية بينما الانتخابات لها قواعد أخرى.. فهى «مباراة» بين منافسين على إقناع الناخب لكى يختار من بينهم.. وهو مالم يحدث.. فالكل تعامل مع الناخب وكأنه مجبر على اختيار أشخاص بعينهم.. وهذا أيضًا غير صحيح. لقد ضربت مثلًا بالانتخابات البرلمانية على غياب «روح أكتوبر» على المستوى المحلى.. حيث غابت الجدية وحسن التخطيط والاستعداد الجيد لضمان تحقيق الهدف. ??? والأمر ليس بعيدًا أيضًا على المستوى العربى.. حيث كان التضامن العربى أبرز ما تحقق فى أكتوبر 1973، فالبعض حارب بجيوشه النظامية، والبعض الآخر أمد هذه الجيوش باحتياجاتها من العتاد والسلاح والذخيرة، والبعض الآخر استخدم سلاح البترول للضغط على الدول الداعمة للعدو وإجبارها على التراجع أو الحياد. لقد تضامن العرب جميعا من المحيط إلى الخليج من أجل تحرير الأرض المغتصبة، ونجحوا فى إجبار العالم كله على سماع صوتهم وتحقيق رغبتهم. ولكن - تلك اللفظة الملعونة - سرعان ما غابت الروح ودبت الخلافات.. ووصل الأمر إلى القطيعة بل العدوان المسلح على بعضنا البعض! نعم.. عادت ريمة العربية أيضًا إلى عادتها القديمة حيث تفكك الشمل العربى.. ومشى كل فى طريق فاخترع الغرب الراغب فى استمرارنا «سوقًا» لمنتجاته من الغذاء والسلاح - ما سمى بثورات الربيع العربى التى أتت على الأخضر واليابس فى أغلب البلاد العربية. ومن ينظر إلى خريطة الوطن العربى سوف تصاب نفسه بالحسرة وقلبه بالغصة.. مما أصبحنا عليه وكأننا عدنا للعصر الجاهلى حيث الحروب على الماء والكلأ! ولعل أخطر نتائج ذلك.. هو فقدان الشباب العربى الأمل فى عودة بلاده إلى الاستقرار مرة أخرى.. ومن ثم كانت هذه «القوارب» المحملة بالآلاف منهم بغرض الهجرة إلى الخارج هروبًا من جحيم الحروب الأهلية فى أوطانهم التى أصبحت أطلالًا تنعى من كانوا فيها! ??? ثم جاء بصيص من نور وسط كل هذه الظلمة حيث اتفق القادة العرب فى مؤتمرهم الأخير على إنشاء القوى العربية المشتركة كآلية جماعية للدفاع، فضلًا عن أنها قوة تدخل سريع لحماية المدنيين وإغاثتهم من الكوارث الطبيعية والنزاعات الداخلية. وتفاءلنا خيرًا.. بعودة التضامن العربى من أجل الحاضر والمستقبل.. ثم عقدت اجتماعات وصدرت بيانات.. إلى أن فوجئنا بالتأجيل لأسباب غير مقنعة. ??? نعم.. لقد غابت «روح أكتوبر» العظيم ونحن فى الانتظار.. ونأمل أن تعود ولله الأمر من قبل ومن بعد..