ثلاثة أيام تاريخية سطرت أحداثها بداية حقبة جديدة فى علاقات مصر بكل من السودان وإثيوبيا.. ثلاثة أيام أولها كان فى الخرطوم حيث تم توقيع اتفاق المبادئ ذى المبادئ العشرة المستقاة من قواعد القانون الدولى، واليومان التاليان كانا فى إثيوبيا حيث تعددت لقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسى ما بين مسئولين تنفيذيين وبرلمانيين ورجال أعمال وإعلاميين ورجال دين، ومع ذلك كانت الرسالة المصرية واحدة للجميع.. دعونا ننسَ الماضى ونفتح بابا جديدا لعلاقة تقوم على الثقة المتبادلة والتعاون والشراكة فى مواجهة التحديات وبناء مستقبل واعد لشعوبنا، والحوار العقلانى حول أى مشكلة أو اختلاف بشأن قضية حياتية أو مسألة قانونية او تعاون مشترك. هذه الرسالة المصرية قائمة على معادلة موضوعية، فإذا كان الإثيوبيون كشعب وحكومة يتطلعون إلى التنمية وتوظيف ما لديهم من موارد من أجل تحسين مستويات المعيشة ولأجل الأجيال المقبلة، فإن مصر تتطلع أيضا للحفاظ على موردها المائى الوحيد الذى يمثل لها أساس الحياة والوجود، والذى لولاه لما كانت هناك حضارة مصرية تشكلت حول النهر منذ آلاف السنين، وكلا الأمرين حق وكلا الأمرين مشروع، وبالتالى فليس هناك مجال لأن يستفيد طرف فى وقت يتضرر فيه طرف آخر والنتيجة أن نبحث معًا عن معادلة تحقق الأمرين معا من خلال التعاون والشراكة والثقة المتبادلة. وبالرغم من وضوح هذه الرسالة المصرية المزدوجة، والاستقبال الاثيوبى الجيد والمريح للنفس والذى عبرت عنه حفاوة الاستقبال وكلمات الرئيس الاثيوبى ورئيس الوزراء، فمن المبكر القول إن الأمر قد وصل لمبتغاه، إذ ثمة عمل مطلوب القيام به، يتلخص فى جملة واحدة وهو تحويل المبادئ العشرة إلى اتفاقيات تفصيلية، وهنا تبدأ مهمة اللجان الوزارية التى اتفق عليها وسوف تكون تحت إشراف ثنائى يجمع الرئيس السيسى ورئيس وزراء اثيوبيا هيليماريام ديسالين من خلال لجنة عليا تجتمع مرتين فى العام إحداهما فى اديس أبابا والثانية فى القاهرة. المكاسب والمخاوف وكما هو الحال فى مصر، حيث السؤال ماذا جنت مصر من اتفاق المبادئ العشرة؟، يطرح السؤال نفسه فى الساحة الإثيوبية، وكما هو الحال فى مصر يوجد من يرى أن الاتفاق لا يشكل اختراقا فى موضوع المياه ولم يأت باعتراف إثيوبى بحقوق مصر المائية التاريخية، والتى باتت تشكل فى حصتها الراهنة أقل بكثير مما تحتاجه بالفعل، يوجد فى اثيوبيا أيضا من يرى أن الحكومة قد تنازلت بتوقيعها اتفاق المبادئ العشرة، وتجاهلت تقليدا اثيوبيا تاريخيا يرفض التوقيع على أى وثيقة تتعلق بالمياه، وقد تعترف بحقوق دولتى المصب كما حددتها اتفاقيات تاريخية سابقة وقعت فى 1902 و1959، الأكثر من ذلك هناك فى اثيوبيا من يرى أن اتفاق المبادئ العشرة يناهض حقوق السيادة لانه يضع قيودا على بناء السد وعلى تشغيله وعلى طريقة ملئه.. بل هناك من سمعنا منه يسأل هل تخلت مصر بالفعل عن هدم السد بعد استكمال بنائه؟ وكانت إجابتنا السريعة نحن فى مصر نبنى ولا نهدم. وفى مصر أيضا نرى من يقول إن إعلان المبادئ حقق اختراقا كبيرا لإثيوبيا، على الاقل أنه تضمن اعترافا بالسد وبما يسمح بأن تقوم أثيوبيا بالحصول على تمويل دولى لاستكمال بنائه، وهنا نجد إجابة من وزير الخارجية المصرى سامح شكرى، ذلك أن السد بات حقيقة واقعة فقد بنى منه 40%، والتعامل معه باعتباره غير موجود هو سلوك سلبى ولا يحقق أى شىء، بل يزيد الأمور ضبابية، وهو أمر لا يستقيم مع هدف حماية المصالح المصرية وحقوق الشعب المصرى، فكان لابد من التعامل مع قضية السد الاثيوبى بمنهج جديد يزيل الشكوك الماضية التى جاءت نتيجة أخطاء متبادلة بين حكومات سابقة فى البلدين. إن تأمل اتفاق المبادئ العشرة يجد إجابات منصفة لكل الأطراف، ولكن العبرة وكما قال الرئيس السيسى ليس فى توقيع أفضل الاتفاقيات بل فى إرادة التنفيذ وحسن النوايا والثقة المتبادلة وتحقيق المكاسب المشتركة لكل الاطراف. انتقادات سودانية الجديد فى الأمر أن السودان نفسه وبعد أن كان له موقف مؤيد تماما لبناء السد وتجاهل نسبى للمخاوف المصرية من تأثيرات سد النهضة السلبية المحتملة، وهو موقف نبع أساسا من اعتبارات سياسية، بدأ يشهد أصواتًا جديدة تنتقد هذا الموقف غير الدقيق فنيا، وترى أن الأمر جد وليس بهزل، وأن السد الإثيوبى يحمل مخاطر محتملة وقوية على السودان خاصة إذ تم بناؤه بطريقة غير مدروسة، وأن من حق الشعب السودانى أن يعرف وعلى الحكومة أن تعمل لدرء هذه المخاطر الآن وليس بعد ذلك، وأن التنسيق مع مصر وإثيوبيا لا مفر منه سواء أثناء البناء أو عند تشغيل السد. مثل هذه المخاوف المتبادلة على الأقل بين قطاعات من المصريين والسودانيين والإثيوبيين تعنى أن الرسالة المصرية وما يقابلها من استجابة إثيوبية تلخصها عبارة تحيا الصداقة المصرية الاثيوبية التى أطلقها رئيس الوزراء ديسالين، لم تصل إلى كل القطاعات فى البلدان الثلاثة بصورة سليمة، وأن مخاوف الماضى مازالت موجودة فى عقول الكثيرين، وهنا أهمية مواصلة الحوار مع الفئات المختلفة من شعوب البلدان الثلاثة، ولاسيما الشعب الاثيوبى، ورغم أننا كإعلاميين مصريين قابلنا نظراء لنا من الإعلام الإثيوبى وتحدثنا معًا حول ما يجرى وكيف يقيمونه، فقد تأكد لنا أن الدبلوماسية الشعبية التى كان لها حظ من اللقاءات الرسمية مع الرئيس عبد الفتاح السيسى، ما زالت بحاجة إلى المزيد من الجهد وتكرار اللقاءات والبحث عن آلية لتنظيم تلك اللقاءات بصورة دورية وبحيث تصل نتائجها وتأثيراتها الإيجابية المنتظرة إلى جموع الشعبين. بداية وليس نهاية هذه البيئة المجتمعية تعنى أن توقيع اتفاق المبادئ هو مجرد بداية لعمل دؤوب، ولجهد كبير لابد من بذله وصولا إلى اتفاقات تفصيلية لا تحتمل المناقشات أو التلاعب من أى طرف كان، وهنا نلمح أن السياسة المصرية تقوم فى جانب كبير منها على بناء الثقة أولا ونبذ خبرات الماضى السلبية، والخروج من تأثيراته البغيضة، وأن يشكل التعاون المصرى السودانى الإثيوبى نموذجا يمكن تعميمه مع باقى دول حوض النيل، وسواء التى وقعت على اتفاقية الإطار المعروفة باتفاقية عنتيبى والتى ترفض مصر والسودان التوقيع عليها إلا بعد اعترافها صراحة بحقوق دولتى المصب التاريخية، وفى هذا السياق أيضا تجتهد الدبلوماسية المصرية فى تعميق العلاقات الثنائية مع إثيوبيا، وأن تقدم كل ما يمكن تقديمه حكوميا أو من خلال القطاع الخاص لمساعدة الحكومة الاثيوبية فى خططها الخاصة بالتنمية، ولتأكيد أن مصر ليست كما كان يشاع سابقا ضد نهضة إثيوبيا، بل إنها شريك فى هذه النهضة، وتمثل المنح التى قدمت للطلاب الإثيوبيين للتعلم فى إحدى الجامعات المصرية الخاصة واحدة من هذه التجليات. ويعد مجتمع الأعمال المصرى الإثيوبى معنى ببحث فرص التعاون والاستثمار المشترك، وقد قامت إحدى الشركات المصرية الكبرى بالإعلان عن استثمارات جديدة فى السوق الإثيوبية بقيمة 45 مليون دولار وبما يفتح الباب لخلق شراكات بين القطاع الخاص فى كلا البلدين، وبما يجسد مقولة المنافع المتبادلة تسهم فى بناء الثقة. فى البرلمان الإثيوبى كلمة الرئيس السيسى فى البرلمان الإثيوبى، هى الأولى من نوعها فى تاريخ البلدين، حملت معها دعوة صريحة للنظر إلى المستقبل، والبناء على رصيد الثقة الجديد الآخذ فى التبلور بين المسئولين المصريين والإثيوبيين، وعدم السماح لأحد أن يعوق تقدم علاقاتنا الثنائية، والنظر إلى نهر النيل كرباط أزلى وهبة من الخالق تربط بين شعوبنا ولا يجوز لأحد أن يوقفها أو يمنعها أو يضر بها، فلا مجال لأن يستفيد طرف ويتضرر الآخر.. إنه مصير مشترك يلزمنا بفتح صفحة جديدة تستفيد من مبادئ العصر الحديث الذى نعيشه ويُلزمنا أيضا بتجنب النزاعات التى تضرنا جميعا ولا تفيد أى منا، بل تستنزف طاقاتنا وقدراتنا، وهى قدرات وطاقات إن وجهت إلى التنمية وتطبيق العلم الحديث وبناء الانسان لأصبح لدينا العاصم من أن نرى مشاهد الجفاف البغيضة التى مرت بها إثيوبيا فى سنوات سابقة، ولدينا العاصم أيضا من أن نرى القلق والخوف من فقدان مصر مصدر الحياة الوحيد للشعب المصرى الذى يناهز 90 مليون نسمة، وليس لديه أى بديل آخر. كان ملخص كلمة السيسى لممثلى الشعب الإثيوبى بسيطًا ومباشرًا فاليوم لدينا إرادة للبناء والتعاون ولدينا الجهد والطاقة، فليكن مستقبلنا واحدًا ومشتركًا وقائمًا على التعاون والبناء والنماء.. بعد الاستماع إلى هذه الكلمة سألت إحدى النائبات فى البرلمان الفيدرالى، فقالت إنها لحظة تاريخية بالنسبة لها ولكل زملائها النواب أن يستمعوا إلى الرئيس السيسى الذى أزال كثيرًا من الشكوك الإثيوبية وأن كلمته تعنى لهم دعوة إلى العمل وإلى مساعدة الحكومة فى استكمال الاستحقاقات الأخرى من الاتفاقيات التى سيتم التوصل إليها لاحقا. المهم إذًا أن دورة العمل بدأت، وإذا كان السيسى دعا إلى نبذ الماضى، فقد قال ديسالين فلتحيا الصداقة المصرية الاثيوبية، وكلا الأمرين مقدر ومشجع.