الراجل اللى واقف ورا عمر سليمان حيّر الناس لفترة طويلة وكان ملازما له بنظرته الحادة ووقفته الجادة، ذكرنى بالراجل اللى قاعد وراء أم كلثوم بعوده التراثى ونظارته الكلاسيكية ونظراته الرومانسية وحركة يده الشحيحه على العود. إنه الموسيقار الكبير محمد القصبجى عبقرى النغم، غريب المزاج والسلوك، أحب أم كلثوم وأعف بكيفه أو غضب عنه، كانت علاقتهما غريبة يعلو فيها صوت الفلوس على صوت الحب فهى تثمن ألحانه وهو يفضل فلوسها كان القصبجى لا يمل من طلب رفع أجره كملحن لأم كلثوم وعازف فى فرقتها، وكانت لا تخجل من أن تقول له فى كل مرة.. مافيش!. فى إحدى المرات، دعا القصبجى عازف الكلمات فى فرقة أم كلثوم أحمد الحفناوى، وطلب منه أن يتصل بأم كلثوم تليفونيا ويطلب منها رفع أجور العازفين بناء على طلبهم جميعا، لكن أم كلثوم ردت على الحفناوى بعنف وقالت له، إنها مطلب القصبجى وحده وليس أعضاء الفرقة، وأنت يا حفناوى تتكلم الآن من منزل القصبجى، قفل الحفناوى السكة وهرول إلى منزل الست ليعرف منها كيف أكتشفت أنه كان يتكلم من تليفون منزل القصبجى، فقالت له: سمعت صوت بغبغان القصبجى فى خلفية المكالمة!. كان القصبجى كريما جدًا فى أحاسيسه الموسيقية، بخيلا جدًا فى الفلوس فهو من النجوم القلائل فى جيله الذى لم يمتلك سيارة خاصة، ولذلك ظلت شهرته أقل من شهرة نجوم آخرين مثل عبد الوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطى، كان يركب الترام مجانا لأن الكمسارية يعرفونه، ومرة أحدهم أصر على مطالبته بثمن التذكرة فقال له «إيه يابنى مش عارفنى أنا القصبجى ملحن أم كلثوم». ومن الطرائف المعروفة عن هذا الموسيقار العبقرى أنه كان يحتفظ فى عزفه خاصة بمنزله بكل ورقة تصل إليه من إيصال الكهرباء إلى تذكرة السينما وتذكرة الأوتوبيس إن دفع. وفى غرفة أخرى كان يحتفظ بأجهزة دقيقة مثل الجرامافونات والساعات الكبيرة والصغيرة وكان يهوى إصلاحها بنفسه كما كانت من هواياته إجراء بعض التعديلات على آلة العود التى كان أستاذا ورئيس قسم فى العزف عليها ومن تلاميذه فى ذلك محمد عبد الوهاب ورياض السنباطى. تزوج القصبجى أربع مرات ولم يجمع بين أى منهن، الأولى بنت أحد قضاة أسطنبول واسمها هاجر وتزوجها عام 1922 لمدة 3 سنوات ثم تزوج زينب لمدة عامان، ثم تلميذته المطربة اليهودية ريم فيتانيم كروب وقد أشهرت إسلامها وأختارت اسم هدى محمد المهدية، والرابعة والأخيرة فى توحيدة حسين بنت شريكه فى المنزل الذى كان يعيش فيه، تزوجته عام 1932 ومات وهى على ذمته، ولم ينجب من أى من زيجاته الأربع. توقف القصبجى عن التلحين عام 1946 وكانت آخر ألحانه لأم كلثوم لحن «رق الحبيب وواعدنى» ولم يشفع هذا القصير السيمفونى العربى له عز أم كلثوم أن تستمر ألحانه لها، ولم تحفظ له أنه كان أستاذها وأول من كون لها فرقة موسيقية تغنى بمصاحبتها فى أول حياتها الفنية فى القاهرة وكان القصبجى يشعر بالمرارة فقد كان زملاؤه يعملون وينجحون وهو مركونا على الرف ويشعر بأن لديه أفكارا جديدة وباستطاعته الخروج بألحان مبتكرة. ومما زاد طعم المرارة فى حلقه فى أيامه الأخيرة أنه عندما أنشأ معهد الكونسير فتوار بأكاديمية الفنون قسما للموسيقى العربية لم يستدع القصبجى للتدريس فيه إنما فضل أحد تلاميذه وهو الموسيقار رياض السنباطى. أما ما زاد العيشة مرارًا قبل رحيله عن عالمنا فى 25 مارس 1966 فهى جائزة الدولة التقديرية وقد رشحه معهد الموسيقى العربية 1965 وعاش على أمل الحصول عليها كشكل من التكريم له بعد الذل والهوان، لكن الأحلام طارت فى الهواء، وحصل عليها مهندس معمارى هو على لبيب جبر. اسم القصبجى يستحق جائزة الدولة التقديرية فهو لم يقصر فى عطائه الموسيقى إنما المقصر فى أكاديمية الفنون المصرية التى تجاهلت ترشيح اسمه لها طوال الزمن الماضى، والمقصر الثانى هو نقابة الموسيقيين التى ترشح كل من هب ودب لجوائز الدولة، والدولة لا رأى لها ولا رؤية ؟؟؟ يحصل على هذه الجائزة وغيرها. ولماذا استحق القصبجى جائزة الدولة لأنه ملحن أغانى لأم كلثوم تعد بالعشرات منها «إن كنت أسامح وأنسى الأسية»، «مدام تحب بتنكر ليه»، «يا صباح الخير ياللى معانا»، «نورك يا ست الكل نور حينا»، «قلبى دليلى»، «بتبص لى كدة ليه»، «مش ممكن أقد أصالحك» و«يا جمال العصفور با بهاه» وهو ملحن أغنيات أسمهان «أنا اللى أستاهل»، «إمتى هتعرف إمتى»، «يا طيور» و«ليست للبراق عينا» والأخيرة غناها أيضًا إبراهيم حمودة وحياة محمد. هذا الراجل اللى قاعد وراء أم كلثوم فى كل حفلاتها هل ظلمناه؟ أم ظلم هو نفسه؟.