فى الرابع والعشرين من أكتوبر تحل الذكرى الحادية والأربعين لرحيل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، مؤسس النهضة الأدبية الحديثة، وواضع بذور العقلانية والتفكير النقدى فى ثقافتنا العربية المعاصرة، وأحد الكبار الذين حملوا عبء الحلم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية الحديثة. كان طه حسين يحلم بمصر «وقد أظلها العلم والمعرفة، وشملت الثقافة أهلها جميعا، وشاعت فيها حياة جديدة، وأصبحت جنة الله فى أرضه حقا يسكنها قوم سعداء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة وإنما يشركون غيرهم فيها، وأصبحت مصر كنانة الله فى أرضه حقا يعتز بها أقوام أعزاء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة وإنما يفيضون على غيرهم منها».. لقد عرف طه حسين أن له رسالة وأن عليه تكليفاً، هما قيادة المثقفين المصريين والعرب عامة فى اتجاه «العقلانية» و«الحرية الفكرية» وبناء قاعدة من المثقفين عريضة وراسخة يمكن أن تقود مصر والرأى العام، فكان أبرز تجليات هذا التوجه الطموح إطلاق مقولته الخالدة، عندما أصبح وزيرا للمعارف (التعليم) فى النصف الأول من القرن العشرين، «التعليم كالماء والهواء». ولا يستهين أحد بما قاله وفعله طه حسين فى ذلك الوقت؛ لأن انضمامه وانحيازه إلى صفوف الشعب كان له مغزى أعمق من كل ذلك، لأنه قد خرج بالمثقفين من عزلتهم السياسية وحطم ذلك الحاجز السميك الذى كان يفصل الفكر عن الحياة، والأدب عن المجتمع، والخاصة عن الجماهير. ولم تكن رسالتا «الأدب» و«الإصلاح» منفصلتين. أما بدايات ذلك «التمرد الفكرى» و«القلق الروحى» و«الثورة الأدبية والفنية» التى جعلت منه محطم أوثان أهل زماننا، فظهرت مبكرا جدا، فى السنوات الأولى لتلقيه العلم والبحث عن المعرفة، وكانت هذه فترة صدامه الأول مع المؤسسة الفكرية الروحية والأدبية والاجتماعية والسياسية الذى جعله ينشق على بيته الكبير- الأزهر- ويطلب العلم الجديد والمنهج الجديد والقيم الجديدة فى تلك الجامعة الجديدة التى استقطبت مثقفى عصره، الجامعة الأهلية نواة الجامعة المصرية المنشأة فى عام 1925، التى غدت فيما بعد جامعة القاهرة. وفى مجال البحث العلمى، فقد استحدث طه حسين فيه ثورة كبرى فى العشرينيات أولاً بكتابه «حديث الأربعاء» وثانياً بكتابه «فى الشعر الجاهلى»، بتطبيق مناهج البحث التى تعلمها على العقلانية الفرنسية منذ ديكارت، وعلى الوضعية من فرانسيس بيكون إلى أوغوست كونت. فبدأ كل بحث بنقد المسلمات النقلية حتى تثبتها الأدلة العقلية، وطالب بأن يكون بناء اليقين على الاستنتاج والاستقراء معاً. كان طه حسين رجلا متعدد النواحى والمشارب والوجوه، فهناك طه حسين «مؤرخ الأدب» الذى ترك عشرات الكتب التى مثلت فى حينها ثورة حقيقية فى مناهج درس الأدب العربى ونقده وتأريخه على السواء. وهناك طه حسين «المؤرخ» بألف لام التعريف، الذى كتب عن «الفتنة الكبرى» وحلل جوانبها السياسية والاجتماعية فى بحث عميق متفرد. وهناك طه حسين الرائد فى مجالات الإبداع الروائى والقصصى، الذى راد الطريق أمام الناشئة وشباب الكتاب وشجعهم على ارتياد الأرض البكر دون خوف، فكتب دعاء الكروان والمعذبون فى الأرض وأديب. وهناك طه حسين، الأستاذ الجامعى، الأكاديمى المرموق، الذى تخرجت على يديه أجيال وأجيال منهم من أصبحوا أساتذة كبارا وأعلاما مرموقين على اختلاف تخصصاتهم العلمية ومجالاتهم البحثية، وهم الذين تأثروا بآرائه وأفكاره ومنهجه، ومجسدين أسمى قيم وأشكال «العلاقة بين الطالب والأستاذ» دون خنوع أو تسليم، بل فهما واستيعابا وتمثلا، نقدا وتطورا وتجاوزا. وهنا ينبغى أن نتوقف قليلا عند هذا الجانب المحورى فى سيرة ومنجز طه حسين، وهو جانب الأستاذ الأكاديمى الذى مارس البحث العلمى والتدريس الجامعى لما يزيد على نصف القرن، تخرجت خلالها أجيال، عشرات المئات من الطلبة الذين احتلوا مواقعهم فى مجالاتهم المختلفة. أما اللافت بشدة، هو كثرة وتميز عدد التلاميذ الذين أصبحوا فيما بعد «أعلاما بارزين» فى الحياة الثقافية المصرية والعربية على السواء، كان طه حسين شديد الحساسية تجاه الموهبة الفردية، يتشمم النجابة ويستشعر ملامح التفوق والنبوغ فيمن يقابله من الطلاب الجدد المقبلين على الدراسة الجامعية، عقب انتهاء دراستهم الثانوية الأساسية (البكالوريا حينها). صائد المواهب وقد لا يعرف الكثيرون أن طه حسين هو الذى اكتشف وساعد وشجع أسماء بحجم.. سهير القلماوى ومحمد مندور ولويس عوض وعبد الرحمن بدوى وشوقى ضيف ومحمد كامل حسين ومحمود على مكى وأحمد هيكل وناصر الدين الأسد وإحسان عباس وشكرى الفيصل.. وعشرات غيرهم فى مصر وخارجها على استكمال دراستهم الأدبية والتخصص فيها والحصول على درجاتهم العلمية العالية من جامعات أوروبا المختلفة. وأذكر فى هذا الصدد أننى سألت أستاذى الجليل المرحوم محمود على مكى أستاذ أساتذة وشيخ وشيوخ الأدب والحضارة الأندلسية فى الجامعات المصرية والعربية والعالمية، فى العام 1999 قبل تخرجى بعام واحد، وقبل اعتزاله التدريس الجامعى بعدة سنوات: هل كنت ترغب فى هذا التخصص الذى أصبحت فيه أحد أعلامه الكبار أم كان لك رغبة أخرى؟، فأجابنى قائلا: وهل هناك أحد يرفض للعميد يقصد طه حسين - طلباً؟ وروى لى المرحوم مكى هذه الحكاية الدالة.. وشرع يقول: بدأ اهتمامى بالدراسات الأندلسية فى الحقيقة قبل أن أعرف شيئاً عن الأندلس أو أفكر فى أننى سوف أطأ تلك البلاد فى يوم من الأيام؛ لكن البداية الحقيقية بدأت بعد تخرجى فى الكلية، وعندما تخرجت فيها وكنت فى قسم الامتياز، وهو قسم خاص بالطلبة المتفوقين، كان معى فيه طالبان أحدهما فتاة والآخر هو الدكتور إحسان عباس، وقد تخرجنا معا سنة 1949. وفى صيف تلك السنة تم الإعلان عن بعثتين إلى باريس الأولى خاصة بالفيلولوجيا والثانية باللغات السامية، وقد تقدمتُ لاجتياز المباراة فى البعثتين، وحصلت على تقدير امتياز فيهما معا لذا كنت أظن أننى جدير بالبعثتين لا بواحدة فقط. لكن بعد أسابيع، وكان الدكتور طه حسين قد تولى وزارة المعارف، طلعت لائحة طلبة البعثتين ولم أكن ضمنهما، وأن الذى تم اختياره مكانى هو زميل كان المجموع الذى حصل عليه أقل من ذلك الذى حصلت عليه. وقد أثار ذلك غضبى، ودفعتنى حماسة الشباب آنذاك لأبعث برسالة إلى طه حسين، بصفته الشخصية وبصفته وزيرا، أعبر من خلالها عن استنكارى الشديد لهذا القرار، الذى وصفته بالظالم والمتحيز. وأرسلت نسخة من الخطاب إلى أهم صحيفة للمعارضة فى ذلك الوقت، وهى أخبار اليوم. طبعاً لما كتبت الرسالة كنت أعتقد أن ذلك مجرد صيحة فى واد؛ لأنه من يستطيع أن يهتم بكلام شاب فى بداية حياته ينتقد فيها ذلك الجبل الشامخ الذى هو طه حسين. لكن المفاجأة أن الصحيفة نشرت الرسالة كاملة وعلى ستة أعمدة وتحت عنوان مثير هو: «جامعى متفوق يقول لوزير المعارف هل يجب أن أكون قريباً أو محسوباً». وبعد أسبوع واحد من ذلك، كانت هناك مفاجأة ثانية، وتتمثل هذه المرة فى برقية تلقيتها من وزير المعارف طه حسين نفسه، يدعونى فيها لمقابلته، وفعلا طربت لذلك وذهبت وكلى تفاؤل، بحيث اعتقدت أنه استدعانى لينصفني. لكن الغريب والمفاجئ أن الدكتور طه حسين استقبلنى فى مكتبه بوجه متجهم وخاطبنى بعنف قائلاً: «هل تتحمل تبعة ما كتبت؟ وهل هذا هو الأسلوب الذى يخاطب به أمثالى؟»، فى تلك اللحظة أحسست أن كل آمالى وأحلامى تبخرت، وبما أن الأمر كذلك، قلت لنفسى لن أخسر أكثر مما خسرت إن أنا واصلت التحدي، لذا قلت له: «يا معالى الوزير أنا لست فقط أتحمل تبعة ما كتبت، وإنما سوف أرفع عليكم وعلى وزارة المعارف كذلك قضية فى مجلس الدولة»، وكان ذلك المجلس قد أنشئ لمحاسبة الوزراء. والغريب أنى لم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى انفرجت أسارير طه حسين وضحك وقال لى تعال يا فلان، وأخذنى إلى ركن فى مكتبه وحادثنى بشيء من الانبساط الذى لم أره فى أول المقابلة، وأخبرنى أنه اطلع فعلا على ملفي، وأنه بصدد إعداد بعثة أخرى سيرسلنى ضمنها. ولم يكد يمضى أسبوعان آخران حتى استدعيت من جديد إلى مكتبه، وهناك التقيت لأول مرة بستة شبان آخرين سوف يرافقوننى فى البعثة. والواقع أن إرسالنا إلى إسبانيا كان مفاجأة؛ فالبعثات كانت ترسل إلى إنجلترا وفرنسا وبنسبة أقل إلى ألمانيا. هذه الحكاية المثيرة، وهناك غيرها العشرات رواها أصحابها الكبار فى مناسبات مختلفة وكتب عدة، كافية لتؤكد أن العبقرى المفكر طه حسين كان يرى فى كل طالب اتجاهه الفكرى والسياسى، وكان يقوم بتنشيطه ويحسن توجيهه ومساعدته واستنفار ملكاته وقدراته ليأتى بعدها بالعجائب بحثا وتأليفا ترجمة وتحقيقا تدريسا وإشرافا. بين طه وعصفور حكاية أخرى رواها الناقد والأكاديمى المعروف، جابر عصفور (وزير الثقافة الحالى)، «تلميذ تلميذه» طه حسين، فعصفور قد تتلمذ على يد الرائدة الكبيرة سهير القلماوى، التى كانت بدورها واحدة ممن تتلمذوا بشكل مباشر على يد طه حسين، وهو الذى وجهها إلى دراسة الأدب، بعد أن كانت ميالة إلى دراسة الطب وقال لها حينها وهو يضحك «أنت ترغبين فى دراسة التشريح.. فليكن.. ستقومين بتشريح النصوص الأدبية بدلا من تشريح الجثث الآدمية». يروى جابر عصفور فيقول: «التحقت بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة مدفوعا بحبى لطه حسين وكتبه التى التهمتها فى المرحلة الثانوية، ومفتونا بكتابه «الأيام» الذى أوقعنى فى دائرة طه حسين التى لم أخرج منها إلى اليوم. وقد قررت - نتيجة محبة طه حسين والأفق الذى أدخلنى إليه - أن ألتحق - بعد الثانوية العامة - بالكلية التى ظل طه حسين عميدها لسنوات عديدة، وبالقسم الذى أثار منه طه حسين العواصف الفكرية الربيعية التى أزالت جمود الحياة الثقافية، ودفعت بالحركة الفكرية إلى مجالات لم تعرفها قبله، مكتسبة منها الجرأة التى أشاعها فيمن حوله، والتجديد المنهجى الذى جعل من قسم اللغة العربية - بحق- طليعة المنهج الحديث فى دراسة التراث وإعادة قراءته، بعيدا عن قيود التقاليد الجامدة وأعراف الاتباع الخامدة». ويبقى السؤال: أين نحن الآن من العميد طه حسين؟!