من منا لا يريد أن يعيش فى سلام واطمئنان، ومن منا لا يرغب فى أن يرى بلده فى أفضل حال، ومن منا لا يبحث عن السعادة والاستقرار.. أسئلة كثيرة على هذا النحو تثور فى ذهنى وفى أذهان كثير من المصريين، فى الوقت الذى تأتى فيه الأحداث والتطورات سواء فى داخل مصر أو فى جوارها مليئة بالدم والنار والصراعات ومشاهد القتل والذبح والتدمير. إذا ما أجاب أحد عن هذه الأسئلة ستجد عبارة واحدة وهى أننا جميعا نبحث عن السلام الداخلى وعن الاطمئنان وعن الاستقرار، ولكننا جميعا نشعر بقدر من الفشل فى تحقيق ما نريد ونأمل، جزء من الفشل مرهون بضعف الإمكانات التى تحت أيدينا، وجزء آخر مرتبط بغياب الإرادة أو ضعفها، وجزء ثالث مرهون بغباء الآخرين المحيطين بنا، ونواياهم الشريرة سواء تجاه أنفسهم أو تجاهنا نحن. قد يجد البعض فى هذه الكلمات بعضا من التفلسف غير المفهوم، أو فذلكة غير مبررة، غير أن الأمر برمته فى غاية البساطة. فعلى سبيل المثال دعونا نتساءل عن جدوى إلقاء قنبلة على تجمع من الناس لغرض إصابتهم أو ترويعهم، أو زرع قنبلة فى وسط شارع ملىء بالبسطاء والمواطنين العاديين وتفجيرها وقتل البعض وإصابة آخرين كما حدث مؤخرا بالقرب من دار القضاء العالى، أو جدوى تخريب منشأة عامة وتكدير حياة الناس، أو تكسير أبواب الجامعات والمنشآت التعليمية. الثابت هنا أن الذين زرعوا هذه القنبلة قد حققوا هدفهم المباشر وهو الترويع والقتل والتخريب، أما هدفهم غير المباشر فهو إثبات وجودهم على الساحة لعل الدولة ومؤسساتها وشعبها تأتى فى يوم ما وتطلب منهم الصفح والغفران وترجوهم بأن يعودوا مرة لكى يحكموا أو يتحكموا. وحين يتصور البعض من الملثمين أو المجهولين أو الإرهابيين أنهم سوف يصلوا إلى هدفهم البعيد بمثل هذه البساطة فنحن هنا أمام قمة الغباء وقمة اللامعقول. وهو الغباء الذى يشقى صاحبه ويصيب من حوله معا. المثل السابق على محدوديته كما يجرى أحيانا فى بعض أماكن مصرية، يجد مثيله وإنما على مستوى أكبر، إذ تمارسه دول وجماعات. فمثلاً إسرائيل التى تمارس الاحتلال والاستيطان والاستيلاء على الأراضى الفلسطينية فى الضفة والغزو ويحلو لها التدمير والتخريب المنهجى فى غزة كل فترة وأخرى تحت ذرائع واهية، ويخرج ساستها ليؤكدوا رفضهم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة قابلة للحياة لا يختلفون فى قدر الغباء عن هؤلاء الذين يزرعون قنبلة فى شارع بوسط العاصمة. ومكمن الغباء المشترك هنا هو عدم قدرة هؤلاء على قراءة التاريخ بوعى وحكمة، وعدم إدراكهم إرادة الشعوب، والتعالى على كل التجارب الإنسانية والتى تنتهى إلى حقيقة واحدة وهى أن الإرهاب لم يصنع يوما دولة، ولم يصنع دوما سلاما ولم يصنع يوما يقينا، وأن كل الإرهابيين ذهبوا إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم. الحقيقة الأخرى الساطعة هنا أن إرادة الشعوب تعلو فوق إرادة الإرهابيين ولا تنكسر أبدا أمام حفنة من الموتورين والعجزة والقتلة مهما كانت أفعالهم شريرة وخطواتهم تتجاوز العقل والبصيرة. ولقد اثبت المصريون إرادتهم فى دحر الإرهاب ووقفوا مع مؤسساتهم الشرعية وأيدوا خطواتها فى مواجهة القتلة والإرهابيين مهما حملوا من شعارات إسلامية زائفة ومضللة للبعض، وفى كل مرة يحدث فيها زرع قنبلة تنفجر وسط الناس يتحسر المصريون على هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان وفى الوقت نفسه يؤكدون أن مثل هذه الأفعال الدنيئة لن تثبط همتهم ولن تثنى عزيمتهم فى دحر الإرهاب مهما فعل وفى إعادة السلام لمصر ولكل من حولها أيضا. كما أثبت الفلسطينيون فى غزة وفى الضفة وفى كل مكان إرادتهم الرافضة للعدوان والبطش والاحتلال، وصمودهم فى وجه كل عدوان. هذا الصمود الشعبى هو الفعل الصائب الذى لا يفهمه الأغبياء والقتلة والموتورون والمحتلون والمستوطنون قصيرو النظر. مصر تبحث عن السلام، تلك حقيقة لا ينكرها إلا جاحد وإرهابى. والمفارقة هنا أن الإقليم الذى نعيش فيه بات إقليما مضطربا ومجنونا بكل معنى الكلمة. كل يوم هو فى شأن، إقليم يعيث فيه الأغبياء والقتلة فسادا ما بعده فساد، والأنكى أن يحدث ذلك باسم دين الإسلام، دين المحبة والسلام. بعض ما فى الإقليم يتنافى مع العقل السليم. انظر مثلا لمجموعة المسلحين الحوثيين فى ملابسهم الرثة والبائسة، وهم يصولون ويجولون فى مدن اليمن ويحتلون المدن بكاملها؛ الأماكن والمنشآت والمناطق العسكرية بدون أى مقاومة تذكر من أى طرف كان. المعروف أن عدد الحوثيين لا يزيد على بضعة آلاف، فكيف لهم أن يسيطروا بكل بساطة على العاصمة والحديدة وذمار وأجزاء من مأرب وقواعد عسكرية فى أكثر من منطقة. الأمر يبدو أكبر من الحوثيين بكثير، هناك صفقة شيطانية بين الحوثيين وإيران من جهة وبين عَبَدة السلطة من أبناء على عبد الله صالح من جهة أخرى، ولا يهم هنا مصير اليمن نفسه أو وحدته أو شعبه أو الحوار الوطنى. مثل هؤلاء السياسيين والعسكريين الساعين للسلطة مهما كان السبب هم وبال على أنفسهم وعلى شعوبهم، والأكثر خطورة أنهم وبال على الإقليم ككل. يتصورون أنهم أذكياء بما يكفى، قد تدوم لهم السلطة بعض الوقت، ولكن الشعوب لن تنسى لهم خيانتهم وارتماءهم فى أحضان قوة محتلة لا يعنيها مصير اليمن وإنما يعنيها مصالحها الاستراتيجية ونشر مذهبها، وليذهب اليمن إلى الجحيم. اليمن وما فيه من تطورات يقدم لنا نموذجا من الانفلات الوطنى والغباء التاريخى لا حدود له. وحين يفقد الوطن ساسته المحترمين يصبح فى مهب الريح. " الذين زرعوا القنبلة أصابت وقتلت حققوا هدفهم فى الترويع، أما هدفهم فى إثبات الذات وطلب الغفران منهم فهو قمة الغباء وقمة اللامعقول " تماما كما هو الوضع فى سورياوالعراق وليبيا، وفى كل حالة تجد القاسم المشترك أن الساسة المتشبثين بالسلطة رغم أنف شعوبهم يصلون بأوطانهم إلى الدمار الذاتى والى الاحتلال وإلى تدمير المجتمعات وإلى الهلاك بكل معنى الكلمة. فى كثير من الأحيان تبدو الأمور جنونية بلا سقف، فهؤلاء الذين يدمرون بلدهم ويهجرون شعوبهم ويفقدون كل يوم جزءا من الأرض وجزءا من الموارد ويُحاصرون لحظة بعد أخرى، فأى سلطة يمارسونها وعلى من؟ وكيف لهم أن يتعاملوا كزعماء. لقد ابتلى الإقليم بعدد من الزعماء فاقدى البصر والبصيرة، أضاعوا أنفسهم وأضاعوا بلدانهم، واستخدموا كل وسيلة لتفتيت أوطانهم. ما ينطبق على بشار الأسد فى سوريا هو نفسه ما ينطبق على نورى المالكى فى العراق، وينطبق على زعماء الميليشيات القبائلية فى طرابلس بليبيا، وفى عرسال بلبنان، وفى صنعاء باليمن. الكل افتقد إلى الشرعية والكل خان الوطن والكل أصبح وبالا على نفسه وعلى من حوله. والكل أصبح فى مزبلة التاريخ. جميعهم فتح الأبواب للتدخلات الخارجية بدون حساب. تصوروا أن الدعم الخارجى مجانى وبلا حساب. كم هو تصور خاطئ ومجنون. فالثمن هو الوطن كله الذى تحول إلى أشلاء متناثرة لا تجد من يستطيع أن يجمعها ويعيدها إلى سيرتها الأولى. " لقد ابتلى الإقليم بعدد من الزعماء فاقدى البصر والبصيرة، أضاعوا أنفسهم وأضاعوا بلدانهم، واستخدموا كل وسيلة لتفتيت أوطانهم " انظروا مثلا إلى الخريطة الجديدة التى تتشكل فى كل من سورياوالعراق. أجزاء كاملة خارجة عن سيادة الحكومة المركزية فى دمشق وبغداد. دويلة تتشكل تحت اسم الخلافة، لا تعترف بحدود ولا بقوانين دولية ولا بأعراف، تنشر رياحها على من حولها، فى كل يوم تتقدم نحو جزء من سوريا أو جزء من العراق. الاستنفار الدولى بقيادة الولاياتالمتحدة يبدو عاجزا عن وقف تقدم بضعة آلاف من المسلحين. هناك جديد وخطير جدا يحدث هناك. الدولة الوطنية فى حالة ارتداد للخلف. والشعوب سئمت الحروب. والبعض قد يرى فيما يحدث خلاصا من قهر واستغلال وطائفية بغيضة مارسها القائمون على السلطة فى دمشق وبغداد لسنوات دون حساب. علينا أن نعترف بأن استمرار الأمور على ما هى عليه الآن يعنى أن المشرق العربى الذى كنا نعرف قد ذهب إلى غير رجعة. علينا أن نستعد لما هو أخطر وأعمق. نحمد الله أن حمى مصر من هوس جماعة إرهابية، لكن بعض الخطر ما زال كامنا فى الداخل وفيما حولنا. نراهن على الشعب وعلى وعيه الفائق. نحمد الله أن لدينا قيادة تعرف معنى الوطن وتراعى ضميرها الدينى والإنسانى. ويبقى أن يتحلى السياسيون لدينا أيا كان توجههم الفكرى أو الأيديولجى، والتنفيذيون فى كل موقع، بقدر من البصيرة التى تغلق على مصر أبواب الجنون المحيط بنا من كل مكان. نحمد الله أن لدينا شعبًا واعيًا، يعرف طريقه ويعرف صديقه من عدوه، وبغيره يضيع السلام والأمان. حمى الله مصر وشعبها من كل مصيبة وكل خطر.