فى أعقاب حرب أكتوبر دار حوار بين خبير عسكرى شارك فى صنع المعجزة وخبير روسى أعرب خلاله الأخير عن اعتزازه بالحرب ، لأن السلاح المستخدم فيها روسى الصنع ، ورد الخبير المصرى مدافعًا عن الانتصار بالقول إن السلاح لا قيمة له بلا يد تستخدمه وتوجهه وتسدده إلى قلب الهدف، وأن المعجزة ليس فى السلاح، ولكن مبعث الفخر بعيد عن كونه روسى الصنع.. المعجرة سيدى كانت «المقاتل» المصرى ، ليسكت الخبير الروسى مجبرًا بعد أن أفحمه ، المقاتل المصرى والذى يدور معه الحوار فى السطور التالية عن معجزة أكتوبر.. بعد أيام من الحرب أطلق الجنرال ضياء الحق رئيس باكستان الأسبق وصفًا دقيقًا يلمس جوهر المعجزة ، وهو أن حرب أكتوبر كانت أقرب إلى انتصارات عهد النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وصف ملىء بالاشارات والدلالا ت عميقة التأثر والأثر. اللواء الدكتور ممدوح عطية الخبير الاستراتيجى أحد قادة حرب أكتوبر الذى شارك فى استجواب الأسرى الإسرائيليين فى 73، سألناه ماذا حدث فى 67 فأجاب قائلا: بانتهاء الجولة العربية الثالثة صيف 1967 ظنت إسرائيل أنها الحرب التى أنهت كل الحروب، والنصر الذى أزال جميع المآزق وأن العرب لم يبق أمامهم إلا الاستسلام. لكن كان للعرب ومصر رأى آخر، فبعد 5 يونيو 67 كان لابد من العمل بأقصى قدر من الطاقة والإحساس بالمسئولية، نحو توفير المناخ الصحى الثورى لحرب التحرير، وامتلاك أسلحتها الاستراتيجية. وكيف أثرت حرب الاستنزاف على قوى إسرائيل؟ كان تأثير حرب الاستنزاف على إسرائيل أنها عملت على تجميد حركة القوات الإسرائيلية فى سيناء داخل خنادق ثابتة، وإنهاك الجنود ماديا ومعنويا، وهم قابعون فى خنادق ولا يستطيع أى منهم أن يرفع رأسه حتى لا تخترقه على الفور رصاصة قناص مصرى، وعلى إنزال خسائر يومية بالقوات الإسرائيلية، وتركيز أنظار الحكومة الإسرائيلية على جبهة القناة، حيث يتساقط القتلى وتدوى أخبارهم فى كل إسرائيل، فتزيد شعور الإسرائيليين باستحالة تحقيق ما وعدهم به قادتهم، وعجز السلطات العسكرية الإسرائيلية عن حماية قواتها الموجودة فى القناة، وبالطبع فإنه ليس باستطاعة العدو أن يتحمل ما ينتابه من خسائر يومية لوقت طويل، وكان المقاتل المصرى هو الذى خاض حروب الاستنزاف والمواجهة، وهو الذى ساهم فى كسر معنويات المقاتلين الإسرائيليين، فقد تعلم الجندية وبرع فيها إلى أقصى حد برا وجوا وبحرا، وسار فى منطلقاتها بنجاح وثبات. بما أنك كنت فى سلاح الكيمياء.. فكيف استطعتم التعامل مع مادة النابالم الموجودة فى خط بارليف؟ عندما أقامت إسرائيل خط بارليف جهزته بأنواع الأسلحة الممكنة وغير الممكنة، فقد وضعت مئات الأسلاك الشائكة وقضبان السكك الحديدية التى سرقتها من بعض الأماكن فى مصر، إلى جانب حفرهم لخنادق فى الخط نفسه حتى يسمح للإسرائيلى أن يكون فى مستوى أعلى من القناة، وبفعل كل هذه التحصينات اعتقدت إسرائيل أن هذا الخط سوف يقضى على عزيمة مصر، وأن مصر لن تقتحم هذا المانع حيث إنهم غير مؤهلين لذلك، ودعمهم فى ذلك أنهم انتصروا فى 67، ولكى يطمئنوا أكثر أقاموا خمسة خزانات وقود مملوءة بالبترول المسروق من مصر يتدلى من كل خزان ماسورة مخفاة يسيل منها البترول على سطح قناة السويس، وبجوار فتحة المواسير توجد أجهزة إشعال يمكن التحكم فى إشعالها بواسطة زر. ومن هنا كان لابد من التفكير فى حل، فذهبنا إلى موقع مثل قناة السويس، وأقمنا خزانا من البترول، وقمنا بتجربة إشعال النار فى هذا الخزان لنعرف النتائج، وكان النتيجة صعبة، فلقد وجدنا حرارة هذه النيران كافية لإسقاط جلود الجنود. فحاولنا إشراك مطافى القوات المسلحة، ومدافع الإطفاء الرغوى لكن ذلك كان مكلفًا للغاية. فاعتمدنا فى النهاية على ثلاثة حلول: أولًا أن نعامل خوذ الجنود وملابسهم بمادة مضادة للحريق، وثانياً: معاملة خشب القوارب أيضًا بمادة مضادة للحريق، وثالثاً: تزويد كل قارب بطفاية حريق وكان الحل الذى ابتكره أحد المهندسين العظماء، وهو القضاء على الساتر الترابى نفسه بالمياه. وقد تدربنا على كل ذلك من خلال مانع مائى شبيه بقناة السويس واستطعنا بفضل الله وبثقتنا فى قدراتنا وشعبنا وقياداتنا أن ننزل أكبر هزيمة بالجيش الإسرائيلى وتحطيم خط بارليف الذى قالوا عنه (إذا أرادت مصر أن تحطم هذا الخط، فلتأتى بقنبلتين ذريتين وسلاحين مهندسين أحدهما روسى والآخر أمريكى). لكننا انتصرنا، وهزمناهم هزيمة نكراء. لقد كانت خسائر إسرائيل فى الحرب جسيمة، فما أهم هذه الخسائر التى أثرت فيهم؟ لقد جاء فى دراسة قامت بها وزارة الدفاع الأمريكى يوم 5 نوفمبر عام 73، عقب توقف القتال مباشرة، أن الدبابات الإسرائيلية تعرضت للإصابة بالصواريخ المضادة للدبابات بصورة شديدة. فقد قام المصريون بتدمير نحو 200 دبابة إسرائيلية فى الأيام القليلة الأولى، منذ الحرب على جبهة السويس باستخدام القذائف الموجهة كهربائياً. كما ثبت على نحو ما تقول الدراسة - مجال آخر تفوق فيه المصريون بوضوح وهو مجال الأسلحة خفيفة الحركة المضادة للطائرات.. تلك الأسلحة التى نجحت فى إلحاق خسائر جسيمة بالطيران الإسرائيلى، فقد دمرت القوات المصرية ثلث الطيران الإسرائيلى فى الأسبوع الأول من الحرب، وزادت النسبة بعد ذلك إلى النصف بينما فشل الإسرائيليون فى تدمير المطارات العسكرية المصرية. لقد كنت من المجموعة التى استجوبت الأسرى الإسرائليين فى 73، صف لنا حال الأسير الإسرائيلى وقت أسره؟ نعم لقد كنت من المجموعة التى استجوبت 240 أسيرًا فى السجن الحربى، ومعظمهم كان من الشباب، وقد كانوا مندهشين مما حدث، فلم يتوقعوا أن يحدث معهم ذلك، لدرجة أنهم كانوا يرفعون أعينهم عندما تأتى أى طائرة، وعندما سألناهم عن سبب ذلك، أجابوا بأن قاداتهم وعدوهم فى حالة أسرهم سيأتون وينقذونهم لكن الواضح أنهم خُدِعُوا فى قياداتهم العكسرية. وكيف كان يتعامل الأسير الإسرائيلى؟ لقد كنا نعاملهم بالحسنى، فالأسير أمانة فى أعناقنا (طبقًا لاتفاقية جنيف)، وقد كانت لى طريقة معينة فى استجواب الأسرى، فقد كنت اشترى لهم جاتوه وسجائر، وآمر بفك الغمامة التى كانت توضع على عينه وكان هدفى الأول من ذلك إنسانياً، وهدفى الثانى أن أجعله يشعر بالأمان حتى يقول كل ما عنده، لدرجة أنه فى أحد الأيام جاء ابنى وهو غاضب وقال لى: كيف تعامل أسرى الإسرائيليين بالحسنى، وهم يقتلون أسرانا، فأجبته بأن هذه هى أخلاق المصريين. وأيضًا فى إحدى المرات كنت جالسا مع د. عبدالعظيم وزير، وقد أخبرنى أنه أثناء حضوره أحد المؤتمرات الدولية، قالوا له: إن أحسن معاملة للأسرى كانت من قبل الجيش المصري، وهذه حقيقة. مواقف حدثت معك أثناء استجواب الأسرى؟ عندما ذهبت أول مرة إلى السجن، طلبت أحد المهندسين العسكريين الإسرائيليين الذين كانوا مسئولين عن إشعال مادة النابالم وسألتهم: لماذا لم تشعل النابالم كما كنتم تهددون؟ فأجاب: لم أتوقع أن تعبروا وعندما أيقنت أنكم تعبرون بالفعل، حاولت الإشعال، لكنى وزملائى وجدنا المدفعية والطيران تمطرنا بوابل من الصواريخ والقنابل، فلم نستطع عمل شىء غير إنقاذ أهدافنا. ومرة أخرى، طلب منى شاب صغير سيجارة، وعندما أعطيتها له فاجأنى قائلاً: أنت تشعرنى بأبى حينما كان يعد لنا الكيك فى البيت يوم عيد الغفران. وهناك موقف آخر فقد استجوبت فى أحد الأيام طيارا فسألته: ما معلوماتك عن لبس القناع الواقي، فأجابنى: أنا لا أعرف غير الأردب لأنى فى الأصل مهندس زراعى لكن أتيت من خدمة الاحتياطى لكى أقود طائرة فانتوم، وعندما سقطت بها قرب طنطا جريت وخلعت الأفرول، ومع ذلك اكتشفنى بعض الفلاحين وبدأوا فى ضربى لكن أنقذنى منهم عسكرى شرطة وسلمنى للقوات المصرية. ويؤكد اللواء ممدوح أن هذا الشاب مهندس زراعى لكنه وقت الحرب يحارب، وهذا من خلال تدريبه كل فترة لرفع كفاءته، وهذا يحدث مع جميع الإسرائيليين، فإسرائيل جيشها شعبها، وشعبها جيشها.. وكم من الوقت مكث هؤلاء الأسرى، وماذا حدث معهم بعد ذلك؟ مكثوا حتى اتفاقية السلام، وتم استبدالهم بالمصريين الفلاحين الذين حصلوا عليهم فى الثغرة من أجل ذلك الهدف.