«المصريون لطاف وأهل مودة.. يحبون الحياة ويعشقون مسراتها وبخاصة المسرات الحسية.. وفيهم شىء من طبيعة النمل.. ذلك هو دأب الواحد منهم.. وحتى لو لم تكن همته عالية.. إلا أنها همة متصلة باستمرار تثمر فى النهاية عملا ضخماً.. ومن صفات المصريين العجيبة.. أنهم تمرسوا بالاستبداد.. وهم من أقوى الناس على كراهيته وعلى الصبر عليه.. إنهم يحتملونه كما يحتمل الشخص مرضا مزمنا لا يحبه ولكن يصبر عليه.. يخيل لى أنهم من أكثر شعوب العالم إحساسا بالحاكم. وسبب ذلك أن الحاكم كان له دائما وفى كل العصور أثر فى كل تفاصيل حياتهم اليومية».. من حوار نادر مع نجيب محفوظ.. وربما كانت الفقرة المقتبسة فى صدارة الموضوع، من حوار نادر لنجيب محفوظ أجراه معه الكاتب المسرحى الكبير ألفريد فرج، خير تجسيد على نفاذ رؤيته وخلاصة مقطرة بالغة الإيجاز والتكثيف عن طبيعة وتكوين الشخصية المصرية ربما تعجز عشرات المجلدات التى كتبت فيها عن التعبير عنها بمثل هذه البساطة والعفوية والعمق ونفاذ البصيرة، وإن كان محفوظ قد صور فى رواياته وأعماله الخالدة الجوانب المختلفة والمتعددة لهذه الشخصية وجسد عبر إبداعه جوهر وأصالة بيئته المحلية التى فتحت له الباب واسعا ليصل إلى آفاق العالمية. ولم تحظ حواريات نجيب محفوظ الإذاعية والمرئية باهتمام كثير من الباحثين، قدر الجوانب المختلفة والمتعددة من إبداع محفوظ، ومنها حواريات نادرة أجراها معه إذاعيون كبار فى مراحل مختلفة من عمره، وإن كان أقدمها التى وصلت إلينا كانت بعد أن تجاوز السبعين من عمره. فى حلقة نادرة من البرنامج الإذاعى «حوار الإنسان والمكان» الذى أجراه مع محفوظ الإذاعى الكبير عمر بطيشة، روى محفوظ طرفا من ذكرياته عن حياته الأولى، والمشاهد الباكرة التى انطبعت فى ذاكرته، وشكلت وجدانه وفتقت ذهنه، وفتحت له آفاقا للتخيل لا تحد. ذكر محفوظ لبطيشه خلال الحوار أن نشأته فى حى الحسين العريق بحواريه وأزقته وميادينه وآثاره من المساجد والأضرحة والأسبلة، وناسه رجالا ونساء مجاذيبه وشحاذيه، ب «زيطة» المكان المعروفة هى التى جعلته يتشرب روح المكان ويتشبع بمفرداته وتفاصيله الدقيقة فالمكان هنا، والحديث لمحفوظ، له خصوصية من نوع فريد وله مذاق خاص، فالمكان يمثل فى هذه الحالة «الدنيا كلها» لصاحبه (8 أو 9 أعوام تركت بصمتها على العمر كله فيما بعد). محفوظ تطرق إلى أنه، وبعد الانتقال ومغادرة الحى الذى ولد ونشأ فيه إلى أماكن أخرى، يبدأ الإحساس بالحنين للمكان الأول والشعور بالفقد والافتقاد له، ولذلك «فرجوعى للحى أو المكان القديم كان تحت إلحاح أشد من الإلحاح الذى كنت موجودا فيه»، يقول محفوظ. ومن سماع الراديو إلى ظهور التليفزيون، يرصد نجيب محفوظ الفارق الدقيق فى النقلة الحضارية والتقنية التى عاصرها فى ذلك الزمن البعيد، يقول محفوظ «عندما ظهر التليفزيون كان سحراً ثانياً.. أنا لا أتصور الدنيا بدونهما الآن، وكنت أتمنى ألا يوجدا فقط أيام شبابى إنما كنت أتمنى أن يظهرا ويوجدا فى شباب الإنسانية.. لو أن كل الأسماء التى بهرتنا وغيرت وجه العالم.. تصوروا لو أن كل هذه الأسماء لها أشرطة مسجلة تحفظ كل ما قالوه وكل شاردة وواردة لهم كيف يكون حجم وكم المعرفة المذهلة التى كانت ستصلنا عنهم؟!». وبخيال الروائى الفذ، المترع بالموهبة، المسكون بالعبقرية، يتساءل محفوظ عن ماذا لو ظهر هذا الجهاز العجيب فى أزمنة غابرة من تاريخ الإنسانية، يجيب قائلا «كنا رأينا رأى العين النبى? والصحابة كيف كانوا يصومون ويصلون.. لو كان هذا التسجيل موجوداً لكان أغنانا عن أشياء كثيرة جداً وعن آراء كان الناس فيها تستنج وتخطئ ولا تكاد تصل إلى يقين أو رأى واحد يتفق عليه الجميع! كنا رأيناهم رأى العين وسمعنا كلامهم بأصواتهم مباشرة دون وسيط أو ناقل.. تخيلوا لو كان هذا متاحاً؟! نِعَمُ الحضارة الحديثة نِعَمٌ كبيرة وجليلة جداً، وسائل المواصلات الحديثة مثلا التى اختزلت المسافات وقربت الدنيا كلها، كان الإنسان قديماً يسافر من بلد إلى بلد فى شهر أو أكثر، أما الآن فالصورة تختلف تماماً.