حين وقع الاعتداء الغادر علي أديب مصر وكاتبها الكبير' نجيب محفوظ', كنت خارج مصر, وحين عدت إليها طلبت من الصديق الأستاذ' محمد سلماوي', وهو من تلامذته المقربين, أن يصحبني إليه لنؤدي واجب الاطمئنان عليه, ولكنه وسط شواغله الثقافية تأخر في ترتيب تلك الزيارة حتي عاد الأستاذ نجيب محفوظ إلي بيته قبل أيام من عيد ميلاده الذي شاركه في الاحتفال به كثيرون من محبيه ومقدريه, وإذا بالأستاذ سلماوي يتصل بي ليخبرني أنه رتب للزيارة موعدا في الخامسة من مساء اليوم التالي, وأننا سنذهب في صحبته ومعنا المهندس ابراهيم المعلم, الذي تربطه ووالده بالأستاذ نجيب محفوظ علاقات ود قديمة وموصولة, ومعنا كذلك الإذاعي والإعلامي المخضرم أحمد فراج. وعلي باب نجيب محفوظ استقبلتنا بالحفاوة المصرية المعهودة السيدة الفاضلة زوجته, ثم جاء الأستاذ نجيب محفوظ في خطوات ثابته طمأنتنا علي قرب اكتمال شفائه, وأخذ يرحب بنا في ود شديد, ثم جلس بيننا.. وسادت فترة من صمت قصير, لأن أحدا منا لم يعد لهذا اللقاء أكثر من كلمات السؤال عن الصحة والتهنئة بعيد الميلاد, ثم بدا لي علي غير ترتيب ولا إعداد أن أقطع هذا الصمت, فوجدتني أقول: ياأستاذ نجيب, الجالسون معك الليلة كلهم من قرائك, جيلنا كان يجد في كتاباتك ورواياتك شيئا بين فن الأدب وفن التصوير, وذلك بما نسجته في وصف القاهرة وحياة أهلها, ونماذجهم المختلفة من وشي دقيق عامر بالألوان ملئ بالتفاصيل, حتي ليكاد القاري يسمع فيه أصوات الناس ويري وجوههم, ويتابع حركتهم في شوارع القاهرة وأزقتها ومساجدها ومقاهيها, ويكاد دون أن يشعر يدخل طرفا في علاقات بعضهم ببعض, وكم من مرة تعرف بعضنا علي أحياء القاهرة وشوارعها بما كان قرآه عنك في وصفها وتصوير حياة أهلها.. وأضفت: ثم إنك ياأستاذ نجيب تظل في خواطرنا قبل كل شئ وبعد كل شئ كاتبا وأديبا مصريا خالصا, لم تدجن كتاباته وآراؤه بتأثيرات غربية تنال من نكهتها المصرية ومذاقها العربي الأصيل.. وبدا من قسمات وجه الأستاذ نجيب محفوظ وحركة يديه أنه يقبل هذا الوصف له ولكتاباته وأنه يرتاح إليه, فشجعني ذلك علي أن أتقدم في الحوار خطوة أخري, فقلت: ويبقي أن نسألك عن رأي عبرت عنه منذ أسابيع قليلة برسالة وجيزة إلي الندوة التي نظمتها الأهرام تحت عنوان نحو مشروع حضاري عربي, فقد قلت للمشاركين في الندوة: إن أي مشروع حضاري عربي لابد أن يقوم علي الإسلام, وعلي العلم, ولقد وصلت رسالتك علي قصرها واضحة وصريحة ومستقيمة ولاتحتمل التأويل, ولكن يبقي ونحن معك نسمع لك وننقل عنك أن تزيد هذا الأمر تفصيلا, نحتاح جميعا إليه وسط المبارزات الكلامية التي يجري فيها مايستحق الحزن والأسف, من ألوان تحريف الكلام وتزييف الآراء والافتئات علي أصحابها.. وفي حماسة شديدة, وصوت جهير ونبرة قاطعة, انطلق نجيب محفوظ يقول: وهل في تلك الرسالة جديد؟. إن أهل مصر الذين أدركناهم, وعشنا معهم, والذين تحدثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام, ويمارسون قيمه العليا, دون ضجيج ولا كلام كثير, وكانت أصالتهم تعني هذا كله, ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس, هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم, ولكني في كلمتي إلي الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم, لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولايدير أموره كلها علي أساسه لايمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب, إن كتاباتي كلها, القديم منها والجديد, تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا, والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا. وأحب أن أقول: إنه حتي رواية أولاد حارتنا التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية. ولقد كان المغزي الكبير الذي توجت به أحداثها, أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلا في الجبلاوي, وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلا في عرفة أن يديروا حياتهم علي أرضهم( التي هي حارتنا), اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلي أداة شر, وأنه قد أسلمهم إلي استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم, فعادوا من جديد يبحثون عن الجبلاوي. وأضاف: إن مشكلة أولاد حارتنا منذ البداية أنني كتبتها رواية, وقرأها بعض الناس كتابا, والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز, وفيه الواقع وفيه الخيال, ولابأس بهذا أبدا, ولايجوز أن تحاكم الرواية إلي حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها, لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا أصلا وهو يعبر عن رأيه في رواية. وفي ثقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة, ويكفي أن نذكر منها كتاب كليلة ودمنة, فهو مثلا يتحدث عن الحاكم, ويطلق عليه وصف الأسد, ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان, منتهيا بالقارئ في آخر المطاف إلي العبرة أو الحكمة التي يجريها علي ألسنة الطير والحيوان, وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتب صاحب رأي أيا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته. قلت: الواقع أنني قرأت أولاد حارتنا منذ عدة سنوات, وأذكر أنني تعاملت معها حينذاك علي أنها رواية وليست كتابا, ولذلك تفهمت ما امتلأت به من رموز تداخل في صياغتها الخيال, ولم أتصور أبدا أن كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال أو تشير إليها تلك الرموز. ولكن الذي استقر في خاطري علي أي حال وبقي في ذاكرتي منها إلي يومنا هذا, والذي رأيته معبرا عن موقف كاتبها الذي يريد إيصاله إلي قرائه هو تتويج حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة الحارة, التي ترمز للمجتمع الإنساني, إلي الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد' الجبلاوي' حتي وإن تصور أهل الحارة غير ذلك, وهم معجبون ومفتونون ب' عرفة' الذي يرمز إلي سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة. وتابع الأستاذ نجيب حديثه الأول قائلا:' إنني حريص دائما علي أن تقع كتاباتي في الموقع الصحيح لدي الناس, حتي وإن اختلف بعضهم معي في الرأي, ولذلك لما تبينت أن الخلط بين الرواية والكتاب قد وقع فعلا عند بعض الناس, وأنه أحدث ما أحدث من سوء فهم, اشترطت ألا يعاد نشرها إلا بعد أن يوافق الأزهر علي هذا النشر,( ولا يزال هذا موقفي إلي الآن). قلت: إنني أتمني يا أستاذ نجيب أن يسمع الناس منك هذا الكلام الواضح الذي لا يحتمل التأويل, ليعرفوك منك بدلا من أن يعرفوك من خلال شروح الآخرين, وائذن لي أن أقول إني كنت واحدا من الذين يجدون هذه المعاني التي حدثتنا بها الآن حاضرة في ثنايا كثير من كتاباتك القديمة والجديدة, وكانت تعبيرا دقيقا عن منهج جيلنا وجيل آبائنا في فهم الإسلام, فقد كانوا وكنا معهم نتنفس الإسلام تنفسا ونحيا به في هدوء واطمئنان, دون أن نملأ مجالسنا ومجالس الآخرين بالكلام الكثير عنه. وحين أوشكت الزيارة أن تتحول بهذا الحوار العفوي إلي ندوة, تدخل الأستاذ أحمد فراج قائلا في حماسة: كم كنت أتمني أن يسمع الناس كل الناس هذا الحوار الهادئ حول هذه القضايا الساخنة. وأرجو أن يأذن لي الأستاذ نجيب محفوظ' بتسجيل هذا الكلام كله مرة أخري في ندوة تليفزيونية قصيرة لا تتجاوز الدقائق العشر, توضع فيها النقاط علي الحروف, ويعرف الناس, الموافق منهم والمخالف, حقيقة رأي الأستاذ نجيب محفوظ الذي عبر عنه الآن, كما عبرت عنه رسالته الوجيزة إلي ندوة الأهرام. قال الأستاذ نجيب محفوظ:' إني شاكر ومقدر هذا الاهتمام, ولكني أشفق علي نفسي من فتح باب الأحاديث التليفزيونية, وأنا لا أزال في نقاهة لا تحتمل مثل هذا المجهود' ولكني بدلا من هذا أقترح أن يكتب الدكتور كمال أبو المجد هذا الحوار الذي دار كما دار, وسأكون راضيا عن ذلك كل الرضا'. وفي إطار هذه الرغبة الموثقة بإذن صريح من الأستاذ نجيب محفوظ وبشهادة ثلاثة من ضيوفه الكرام, ولدت فكرة هذا المقال, الذي هو عندي شهادة أرجو أن أدرأ بها عن كتابات نجيب محفوظ سوء فهم الذين يتعجلون الأحكام ويتسرعون في الاتهام, وينسون أن الإسلام نفسه قد أدرج كثيرا من الظنون السيئة فيما دعا إلي اجتنابه من آثام, كما أدرأ عن تلك الكتابات الصنيع القبيح الذي يصر به بعض الكتاب علي أن يقرأوا في أدب نجيب محفوظ ما يدور في رءوسهم هم من أفكار, وما يتمنون أن يجدوه في تلك الكتابات, ما نحين أنفسهم قوامة لا يملكها أحد علي أحد, فضلا عن أن يملكها أحد منهم علي كاتب له في دنيا الكتابة والأدب ما لنجيب محفوظ من القدم الثابتة, والتجربة الغنية, والموهبة الفذة النادرة التي أنعم بها عليه الله. أدعو الله أن يتم علي أديبنا الكبير نعمة العافية حتي يمسك القلم من جديد مواصلا عطاءه الأدبي الذي يغني العقل والوجدان, وواهبا ما بقي من عمره المديد بإذن الله لتجلية الأمرين العظيمين اللذين أشار إليهما في رسالته إلي ندوة الأهرام: الدين, الذي به هداية الناس وراحة النفوس, والذي يفيء ألوانا من المحبة والسماحة ودفء العلاقات والتسابق إلي الخير, علي حارتنا الكبيرة مصر.. والعلم, الذي تحيا به العقول, والذي هو مفتاح أمتنا, وكل أمة, إلي أبواب المستقبل الذي تتزاحم اليوم أمامها شعوب الدنيا كلها لتكون لها مكانة في ساحته التي تتشكل معالمها الجديدة يوما بعد يوم.