دعتنا الرئاسة المصرية يوم الأحد الماضى للقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى فى حوار مفتوح مع باقى الزملاء رؤساء تحرير الصحف بأنواعها القومية والخاصة والحزبية، وفى كلمة الرئيس الافتتاحية تحدث عن عدة موضوعات مهمة للغاية، وسوف أشير إلى موضوعين فقط أراهما فى غاية الأهمية ولكل منهما تداعيات يجب تأملها جيدا.. القضية الأولى تتعلق بمسئولية الإعلام فى حماية الدولة المصرية، وقد أفاض الرئيس فى شرح دور الإعلام فى حماية السبيكة الوطنية التى تشكلت فى 30 يونيو ، ويسعى المناهضون لمصر لإيجاد الثغرات للنفاذ إلى هذه السبيكة ومن ثم هدمها، وهو ما يجرى عيانًا بيانًا من خلال إما معالجات إعلامية ربما بحُسن نية ولكنها تتميز بالإثارة والتركيز على جوانب معينة فى الحدث وتجاهل أبعاد أخرى رئيسية مما يثير البلبلة فى المجتمع، أو من خلال أدوات إعلامية قائمة فى الفضائيات مصرية أو خارجية أو فى شبكة الإنترنت تتخصص فى هدم كل شىء والترويج لمقولات مثل ثورة ثالثة فى الطريق والجياع قادمون وهكذا. فضلا عن - وهذا هو الجديد- إطلاق عدة أدوات إعلامية هدفها الرئيسى هو تشويه ما يجرى فى مصر وإثارة التوتر وتحفيز المصريين على مواجهة مؤسسات بلدهم، ومن ثم دفعهم إلى حالة اقتتال ذاتى، وكشف الرئيس هذه الأدوات الإعلامية الجديدة التى تمولها قطر وستنطلق من تركيا أو لندن وسيقودها إعلاميون مصريون معروفين بالاسم وهم إما من الإخوان أو لهم ميول إخوانية ظهرت عليهم مؤخرا وبفجاجة وهذه الأدوات الإعلامية هى قناة «مصر الآن»، وجريدة «العربى الجديد» وموقع «كلتشر Culture» الإلكترونى، وشركة «ميديا ليمتد» وجميعهم يسعون إلى استقطاب النخبة السياسية والفكرية المصرية من أجل تطويعهم كأدوات تؤثر وتوجه الشعب حيثما يريد القائمون على أمر هذه الأدوات الإعلامية حتى ولو بعد عدة سنوات من الآن. فكرة استقطاب النخبة من أجل التأثير على الرأى العام ومن خلال أدوات إعلامية تقدم المغريات المالية الكبيرة جدا، ليست جديدة فى حد ذاتها، وتطبقها قناة الجزيرة بكل فجاجة، حيث تدفع ما يقرب من 3 آلاف دولار وأحيانا أكثر من ذلك بكثير لمن يقبل التحدث فى برامجها عن أحوال مصر وبما يعزز من توجهات الجزيرة العدائية ويضفى عليها مصداقية زائفة، ولذلك يظل جوهر القضية هو تأثير الإعلام فى عالمنا المعاصر إما على بناء السلام وتأكيد التماسك المجتمعى، أو أن يلعب دور المحفز للتوتر وانقسام المجتمعات وتوفير الوقود المعنوى والسياسى والشعبى لحرب أهلية وخراب ودمار فى ربوع الوطن. وربما يجادل بعض الإعلاميين بالقول، وفى محاولة لتبرئة ذمتهم، أن الإعلام لا يصنع شيئا، وأن كل ما يفعله هو نشر ما يحدث فى المجتمع وبالتالى فهو يعكس ما يدور ولا يُشكل ما يدور. وهو ما يمكن الرد عليه ببساطة فالحقيقة الدامغة أن الإعلام المعاصر بأشكاله المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية لم يعد مجرد وسيلة لنقل الأخبار وحسب، ولم يعد وسيلة محايدة كما يتصور البعض، أو مجرد آلية للنقاش العام حول ما يجرى فى المجتمع أو حوله، بل أصبح الإعلام المعاصر أداة فعالة للتوجيه والحشد والتعبئة وتشكيل الاتجاهات وتزييف الحقائق أحيانا سواء بإنكارها تماما أو التركيز الجزئى على بعض أبعادها وتجاهل الأبعاد الأخرى، أو عبر المعالجة الإعلامية المستفزة المثيرة للمشاعر الشعبية وتجاهل تام للمعالجة العقلانية، وبما يشكل فى النهاية حقيقة إعلامية لا علاقة لها بالحقيقة كما هى فى الواقع وكما تحدث بالفعل، ومن ثم تخدم الوسيلة الإعلامية اتجاها معينا قد يحصل على عوائد هذا التزييف ولو بعد حين.. وكما نرى فى كثير من برامجنا التليفزيونية أن مقدمى هذه البرامج يتعاملون باعتبارهم ناشطين سياسيين ولهم رؤية فكرية وسياسية يعملون على نشرها بين المجتمع وليسوا باعتبارهم وسيلة إعلامية محايدة كما يتشدق البعض. من المهم أن يستمر إعلام واع ينطلق من أرضية وطنية ويكشف المعالجات المزيفة ويَحُول دون أن ينحرف الرأى العام والمجتمع وقد أشار الرئيس السيسى إلى المعالجة الإعلامية لقناة الجزيرة القطرية لأزمة الكهرباء التى كانت مستحكمة لعدة أيام، وذلك للتدليل على ما تفعله هذه القناة الفاقدة للمصداقية من أجل ليس فقط تشويه التطورات الجارية فى مصر وإنما وضع تلك التطورات فى إطار وقالب صراعى يؤدى إلى حمل المصريين على التحرك الشعبى ضد الحكومة من خلال إشاعة افتراض أن المصريين ثاروا من أجل انقطاع الكهرباء فى عهد مرسى، وبالتالى عليهم أن يفعلوا الشىء نفسه ضد نظام حكم السيسى، وهو - مثل فج بالفعل - ويعكس الدور الذى يمكن أن يقوم بعض الإعلام عن عمد فى قلب الحقائق وتوظيفها لغرض سياسى واضح للجميع. والمعروف للكافة أن أزمة الكهرباء فى مصر لها أبعاد عديدة فنية ومالية وسلوكية، ولم تكن سببا وراء نزول المصريين فى 30 يونيو، بل كان السبب أكبر من مجرد انقطاع التيار الكهربائى وهو مواجهة مشروع الإخوان فى تغيير هوية الدولة المصرية وبيع تراب الوطن بثمن بخس. والسؤال الذى يفرض نفسه، إذا كان هناك من يتربص بمصر وأهلها وينشئ الأدوات الإعلامية من أجل مزيد من التربص والتشويه ودفع الاقتتال الذاتى، فما الذى يمكن فعله لإحباط مثل هذه المخططات؟ والحق أن مصر الدولة وإن أباحت فى عالم الصحافة والإعلام لرجال الأعمال أن ينشئوا هذه الأدوات دون أن يكون للدولة أى يد فى توجيه المحتوى والمضمون وأسلوب العرض، وفى الوقت نفسه تفرض أدوات إعلامية فضائية وعلى الشبكة الدولية تأثيرها وانسيابها بين أفراد وفئات الشعب المختلفة، فمن الضرورى أن يكون هناك إعلام واع وينطلق من أرضية وطنية صرف ويكشف المعالجات المزيفة ويحول دون انحراف الرأى العام عن حماية الوطن والمجتمع، وهو ما يقدمه الإعلام القومى بالفعل وبجانبه عدد معتبر من الصحف الخاصة التى تؤمن بثورة 30 يونيو كثورة شعبية ضد العشيرة الإخوانية. وهو ما يفرض على الدولة المصرية أن يكون لديها رؤية واضحة ومبرمجة وقائمة على أسس علمية وسياسية واقتصادية من أجل إنقاذ الصحافة القومية وإنهاض دورها واستعادة بريقها لكى تحبط تأثير المعالجات الإعلامية المشوهة البغيضة سواء تورط فيها بعض الداخل أو قامت من أجلها تحالفات إعلامية وصحفية فى تركيا أو غيرها. صدق الرئيس السيسى حين قال إن إسقاط الصحافة القومية جريمة لن نسمح بها، ومن جانبنا نطالب بكل خطوة من أجل منع حدوث هذه الجريمة النكراء وما يجب أن يدركه الجميع أن فقدان الدولة المصرية أذرعها الإعلامية ممثلة فى الصحف القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون، سيكون له مردود سلبى وتراجع كبير، ومن المؤكد فإن أى وطنى شريف لن يرضيه هذا الأمر إن حدث، وصدق الرئيس السيسى حين قال إن إسقاط الصحافة القومية جريمة لن نسمح بها، ومن جانبنا نطالب بكل خطوة من أجل منع حدوث هذه الجريمة النكراء فى حق الوطن، ونطالب الرئيس السيسى أن يوجه المؤسسات والوزارات المختلفة بالوقوف وراء الإعلام القومى وقفة قوية، وأن تخفف بعض الوزارات كالمالية والتضامن والتعليم من قبضتها على هذه المؤسسات القومية التى تقف دوما فى الصف الأول للدفاع عن الوطن، ولا أعتقد أن مسئولا وطنيا شريفا يدرك طبيعة المعركة التى تواجهها مصر، وطبيعة الدور الذى تقوم به الصحافة والإعلام القومى فى حماية الوطن ويفكر فى منع أى دعم معتاد، أو يفكر فى فرض قيود على أى مؤسسة صحفية أو إعلامية قومية، أو يطالبها بما هو أكبر من إمكانياتها القائمة بالفعل، أو يهدد رؤساء مجالس إداراتها بالويل والثبور وعظائم الأمور، أو يتجاهل الرد على المذكرات التفصيلية إزاء أمر من الأمور الحيوية التى تفيد الإعلام الوطنى وتفيد البلد بأسره. وشخصيا فإننى أعتقد أنه لا يوجد مسئول فى أعلى المراتب الحكومية يدرك ما يجرى فى مصر يمكنه أن يقف ضد إعلام بلده ووطنه، وربما يلتبس عليه الأمر فى لحظة معينة، ولكنه سيظل السند والدعم لمؤسسات إعلامية وطنية تواجه كل الأكاذيب وحملات التضليل، وأخيرا فما زلنا فى انتظار دعوة الرئيس لمناقشة الخروج من مآزق الصحافة القومية الراهنة مع ثلاث وزارات مهمة، نحسب أن القائمين عليها هم من الوطنيين الشرفاء الذين يخدمون بلدهم بكل صدق وأمانة. أما القضية الثانية فهى موقف مصر من تطورات ليبيا، وقوامها صراع سياسى وعسكرى محتدم بين فريق يسعى لحماية البلاد من الوقوع فى براثن الإرهاب والتقسيم وهدر الموارد، ويسعون إلى الحفاظ على كرامة الليبيين جميعا، وفريق آخر يفعل كل ما يمكنه من أجل طمس هوية ليبيا وإخضاعها لسطوة التنظيم الدولى الإرهابى الإخوانى ومن ورائه الولاياتالمتحدة الداعم الأكبر الآن للجماعة ولمغامراتها غير المأسوف عليها لتدمير الدول العربية. وكما تابعنا جميعا، فقد أكد الرئيس السيسى أن مصر لم تتدخل عسكريا فى ليبيا، ولم تضرب لا بالطيران ولا بغيره أية مواقع أو تجمعات فى ليبيا، وأن موقف مصر هو مع الشرعية الليبية ممثلة فى مجلس النواب المنتخب، ومع الحكومة التى سيتم تشكيلها تحت رعاية هذا المجلس. ومعروف أن مصر تنسق سياسيا مع الجزائر ودول الجوار من أجل دعم الشرعية وإنهاء الإرهاب فى ليبيا ومنع امتداده إلى خارج الحدود الليبية. ومن الواضح أن مصر تمارس دورها القومى المعتاد، وتقف مع الشعوب الساعية لحريتها وكرامتها، وهو ما تجلى فى قرار مصر تدريب الجيش الليبى على أسس منهجية واحترافية وبما يتناسب مع الشخصية الليبية كما سيتم تدريب الشرطة الليبية فى المعاهد المصرية من أجل بناء مؤسسات أمنية مُحترفة تحمى الليبيين من خطر الإرهاب والإرهابيين. مصر تمارس دورها القومى المعتاد، وتقف مع الشعوب الساعية لحريتها وكرامتها، وهو ما تجلى فى قرار مصر تدريب الجيش الليبى على أسس منهجية واحترافية ولذا كان أمرا غريبا أن تخرج علينا متحدثة رسمية أمريكية تؤكد مسئولية مصر والإمارات عن ضرب تجمعات مسلحة فى ليبيا بمدينة طرابلس قبل أسبوعين، تلتها تحليلات أمريكية تافهة تتحدث عن خطوط حمراء تضعها واشنطن أمام مصر عند تعاملها مع القضية الليبية، وكأن مصر دولة موز لا إرادة لها.. وغرابة الأمر وكذبه أيضا يتضح فى أن قيام طائرات مصرية أو إماراتية بالوصول إلى طرابلس على بعد 1745 كم من أقرب نقطة انطلاق فى الأراضى المصرية هو مسألة تتطلب استعدادات خاصة، لاسيما توافر طائرات لتزويد المقاتلات بالوقود مرتين على الأقل، مرة فى الذهاب ومرة فى الإياب. والأمريكيون يعرفون ذلك جيدا ويعرفون أن مصر ليس لديها طائرات توفير الوقود فى الجو، ويعرفون أيضا أن الطائرات الإماراتية الأمريكية الصنع لا يمكنها أن تطير حوالى من خمسة آلاف كم ذهابا ومثلها إيابا لأسباب تقنية بحتة، كما يعرفون أن مصر لا تقوم بمثل هذه العمليات العسكرية الساذجة التى لا تغير من الواقع على الأرض شيئا. إنها السياسة الأمريكية التى يقودها الرئيس أوباما والتى تفقد مصداقيتها يوما بعد آخر، وتثبت أنها ما زالت مجروحة مما جرى فى مصر بعد زوال حكم الإخوان الإرهابى.. لقد تراجعت المتحدثة الأمريكية نفسها بعد النفى المصرى القوى لمثل هذه الأكاذيب، وتأكد تماما صدق المسئولين المصريين، وباختصار لقد صدقت مصر وكذبت أمريكا.